انتصارُ البساطة

راينر مالكوفسكي
ترجمة سوار ملا

البساطة
برعونةٍ يُستَهان بالنصِّ البسيطِ، الذي قد يكون أحياناً بمثابة اكتشافٍ، وهو كذلك حقَّاً، بيد أنه لا يعلمنا كم من الوقتِ احتاج كاتبه ليبحثَ ويتقصَّى، حتَّى استدلّ عليه.
بينما النّصُّ المعقَّد، على العكسِ تماماً، يظهرُ بصورةِ عملٍ فكريٍّ جليل، حتَّى لو كان عديم الأهميَّة.
البساطة هي المدخلُ الطبيعيُّ السالكُ إلى الأشياء المركّبةِ الغامضة؛ لذا فإنَّ الشيء الذي يبدو بسيطاً في النظرةِ الأولى سرعان ما يلتبسُ علينا في النّظرة الثانية.

الشحرورُ طائرٌ بسيط
أيضاً النَّصُّ البسيطُ يحتاجُ إلى لحظةِ إدهاشٍ حتَّى يفلحَ.
قد تكمن هذه الدهشةُ في تفصيلٍ معيّن أو في النصِّ ككلِّ – فوحدها البساطةُ التي يُحكى بها عن أشياء عظيمة تجعلها تبدو وكأنَّها المرَّة الأولى التي يُحكى عنها.

انتصارُ البساطة هو البديهةُ
البساطة لا تعني بالضرورةِ «المُباشرةَ»، لكن لا مُباشرتها هذه واضحةٌ مثل وثبةٍ رائعة. إنَّها، بين حينٍ وآخر، بارعةٌ كالطُعمِ، وذاك الذي يخلطُ بينها وبينَ السَّهلِ سيُذهَل حتماً. البساطةُ تتركُ الكثيرَ جانباً، وإنّ دلّ ذلك على شَيءٍ إنما على إنبثاقِها من الوفرةِ.
«بطنُ بثشبع ومسرّات أخرى»
آه كم أحسده على مزاجِه. إنَّه يستعمل منشفتين بعد الانتهاءِ من كلّ استحمام، واحدة لأجل رأسه وأعضائه التناسليّة، وأخرى لبقيّة أعضاءِ جسمه. في ذلك يتجلّى سلم أولويّاته. لكن ثمَّة إجحافاً في هذا التدرُّج بحقّ الساقين، اللتين تحملان شهواته إلى مبتغاها وترفعان رأسه إلى الينابيع التي يستقي منها الصّور؛ وكذا ظلماً بحق ذراعيه، اللتين تمكنّانه دوماً من التلذُّذِ بالحياة. إنّه يتذكَّر من بعيدٍ هشاشته المُحتملة في كلِّ حينٍ، هشاشته التي صارَت في الحقيقة جليَّةً منذ زمنٍ، مستمتعاً بالسخرية من نفسِه.
مراراً حينما يخرجُ من الحمام يثني ركبتيِه بقوَّةٍ السّليمتين ويُصفِّر.
آه، حينما تخلعُ الكلمات المرصوفة على الورقةِ النقابَ عن نواياها، – نافعةً كانت أم لا -، وحينما تأخذ الكلماتُ النافعة أمكنتها شيئاً فشيئاً، وفقَ خطّة لم ترْ النّور بعد؛
يا لإثارةِ أن يدركَ المرءُ حدوث ذلك، ويا لسعادته، حينما يدركُ أن لا عودة بعد الآن وأنَّ النصّ سيفلَح.
لا ينبغي أن يكون المرءُ خبيراً في الفنّ حتَّى يُسَرُّ عند نوافير تانغلي في «بازل». لكن ينبغي أن يميلَ دوماً إلى التساؤل عن معنى كلِّ عملٍ إنسانيٍّ.
حتَّى الإحساسُ بالتشرُّد والضياع يمكنه أن يكونَ عاملاً مساعداً في عالم ما فتئ يزداد وظيفيَّةً، لكن ذلك يتطلَّب أن يكون بمقدور المتأمِّلِ في مجتمعٍ مليءٍ بكلِّ هذه التجهيزات والمعدّات المجنونة التي لا تهدأ أن يعيشَ ساعةَ صفاءٍ لا تُنسى؛ وقد يجول في خاطرهِ آنئذٍ، أن من اخترعَ مُنخُلاً يحاولُ أن يستجمعَ المياهَ بهمَّةٍ عمياءَ قد أسدى خدمةً جليلةً لحريّتنا الداخليّة.
أين تقع شبه جزيرة كامشاتكا؟ أين يصبّ نهر أورينوكو؟ التساؤلات توالت بعجالةٍ، وكان ثمَّة متعة في تحريك المؤشر بسرعةٍ من نقطةٍ إلى أخرى فوق خارطة العالمِ. هكذا كانت تبدأ حصصُ الجغرافيا طوال سنواتٍ، وكنتُ حينذاك أسعى كثيراً كي أُنادى فيها من المعلِّم. لقد كانت تلك أسعد لحظاتِ عمري الدراسيِّ؛ إنها تبدو لي الآن كتناولٍ نهمٍ للعالمِ، كما أنَّها صنعت لي أرضَاً لم أزل أستند إليها. معرفتي بمكان أستراليا الجغرافيِّ منحَت هذه النقطة الضئيلة في أوروبا الوسطى، التي أسمِّيها «منزلي»، درجةً عالية من الواقعيَّة.
سيحين الوقتُ الذي سنتعلَّم فيه كيف نثمِّنُ إخلاصَ الأشياء، وسيكون ذلك تجربة مدهشة ومريبة في الوقت ذاته. بمَ على المرءِ أن يشعرَ حين يدرك أن إخلاص فردتي حذاءٍ مطاطيٍّ أو كفاءة عصا قديمةٍ قد يلامِسان القلبَ تماماً مثلما يفعل القيامُ بالمعروفِ عند البشرِ.
إحدى أكثر اللوحاتِ التي أعرفها حسيَّةً هي لوحة رامبرانت «بثشبع». إنَّها تُظهِر امرأة أوريا الحيثي عند المرحاضِ، قبيل أن تلتقي بالملك داوود حين سألها أن تخون زوجها معه. أُفسِّر أمارات الحزنِ والارتباك في وجهها، كالتالي: هي تعرفُ أن طلبَه التعجيزيّ ناجمٌ عن ظُلمِه وتسلُّطه الذي يضعضع الناس جميعاً، أي ناجمٌ عن ظُلمِ الجسدِ. إنّ اللوحة لا تتحدَّث عن أخلاقيَّات، إنَّما عن حقيقة، وكحقيقة تفوق كلّ المصطلحاتِ قام رامبرانت في لوحتِه العارية «بثشبع» برسمِ المعدةِ الممتلئة بشدَّةٍ. إنَّه رمزَ بذلك إلى الجسد الشخصيَّ كتجربةٍ للعنف.
بثشبع تتوقَّع وجودَ لحظةٍ تستلذُّ فيها بمضاجعةِ الْمَلِكِ، لذا فإنَّ كآبتها نابعةٌ من درايةٍ بحتميَّة اللذّة.
في احتفالٍ صيفيّ عبَّر طفلٌ لا أعرفه، ذو أربعة أعوام أو خمسة، عن رغبته بالجلوس إلى الطاولة بجانبي. أُفرِغ كرسيّاً لأجله. من الأخذِ والردِّ بيننا نتجَ حوارٌ هادئٌ أُديرَ ببداهةٍ عظيمة. حتَّى هذه اللحظةِ لم يزل يتملَّكني إحساسٌ بضرورة أن أبرِّر تلك الثقة المطلقة التي بَدَتْ لي في ذلك الحين، لكن دون أن أعرفَ لمن أو كيفَ عليَّ أن أُبرِّرَها. ذاك الصبيّ لم أره ثانيةً قط.
«إسهاماتٌ في التصنيف»
أعميقةٌ المياه الساكنةُ؟ لكنها بكلِّ حالٍ ليست أعمقَ من الثرثارين. لا يقوى الثرثارون على تخيّل أن كلّ هذه المياه الهامدة تسير في القاعِ فَوْقَ الحصيات ذاتها؛ وحينما يكتشفون ذلك مرّةً، يُذهَلون، ولكي يستردّوا توازنَهم، يفرطون في مديحِ محدوديتِهم المتغطرسةِ.
عامٌ بعد آخر والصّور ذاتها، إلى أن أصبحت بالمئاتِ: «منزل العطلِ»، «العائلة على الشطّ»، «كلب شبيتز الأبيض قافزاً نحو عصا».
الحماسة التي يتأمّلون بها الصّورَ. النّظر الدائم بعين الرضا عن النَّفس. لا أجدُ ذلك غير مدعاةٍ للحسدِ. ما يسمِّيه إرنست يونغر بـ»دفء الذات المبتذل» أعدّه أمتنَ قواعدِ التعاملِ مع العيش.
بين موسيقيي الشوارع الذين ألتقيهم كلّ يومٍ في أمستردام، ثمَّة عازفا كمان، يعزفان المقطوعات ذاتها، كلاهما يعزفان الموسيقى الكلاسيكيّة بمهارةٍ؛ لكن، بينما أحدهما يجذب على الدوامِ كثيراً من الناس ليتجمهروا حوله، بالكاد نرى أحداً يقف عند الآخر، ومن يفعل لا يطول مكوثه. وأنا أيضاً لستُ من الذين يصبرون على الوقوفِ طويلاً. وجه العازف، الذي نادراً ما نرى قطعةً معدنيّةً في حقيبة كمانِه، وجهه حزينٌ بمرارةٍ بحيث تبدو لي النظرات المتوجهة إلى عينيه بشفقةٍ، هذه النظرات المُتعاطفة التي أُرغمني عليها أحياناً، غير لائقة.
لكن قد يكون ذَلِكَ مجرّد حجّة أودُّ أن أحمي بها نفسيَّ من أن يمسَّها البؤسُ.

* شاعر ألماني، ولد في برلين سنة 1939 وتوفي في براننبورغ سنة 2003. عمل في الصحافة وأصدر عدداً من الأعمال الشعرية. تتميز قصائده بنوع من مراقبة الذات، وملاحظتها، كما يتبدى من هذه النصوص. نال عدداً من الجوائز الأدبية وكان عضوا في الأكاديمية البافارية للفنون.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة