كل هذه الزحزحات والتحولات الهائلة في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية، يعود الفضل فيها الى ما حصل لهذا المفهوم الذي ما زال مغترباً في مضاربنا المنحوسة أي “حرية التعبير”. بعد سبات طويل امتد لأكثر من ألف عام وعام، وانقطاع عن كل ما حصل حولنا من ثورات علمية وقيمية وما نضح عن ذلك من تعفن وركود، جعل من مضاربنا تتصدر دول وبلدان العالم بامتلاكها لـ “البيئة والشروط” الأكثر طردا وعداءً لهذا المفهوم المارق والغريب “حرية التعبير”. هو بالنسبة للأمم والدول التي أكرمتها الأقدار به وبملحقاته من قيم وتشريعات ومؤسسات؛ يعد كمياه المطر والأنهار التي تسقي وتمد الديمقراطية بما تحتاجه كي تترسخ وتزدهر، لذلك نجدهم يحرصون على حمايته ورعايته والانتصار لكل ما يتعلق به من تشريعات وممارسات متعددة ومتجددة. أما سكان هذا الوطن القديم والذين انتشلهم المشرط الخارجي من قبضة ذلك “الذي إذا قال.. قال العراق” فقد فشلوا وبالرغم من مرور أكثر من 15 عاماً على زوال النظام المباد؛ من التحرر من لعنة الوصاية والأوصياء الجدد. صحيح ان حقبة الفتح الديمقراطي المبين قد فرضت على من تلقف مقاليد أمور الغنيمة الأزلية، مراعاة ما جاء بمدونات “التغيير” وبنحو خاص ما يتعلق بملف الحريات والحقوق وعلى رأسها “حرية التعبير” بأشكالها وتجلياتها المختلفة؛ إلا أن مكر ودهاء القوم في التعاطي مع مثل هذه “الورطة” متعدد أيضا ولا حدود له. وبمقدور المتابع والمهتم بهذا الملف، التعرف عليه عبر كشف حساب ما جرى عليه من ربيع العام 2003 الى خريف العام 2018. حيث عمليات التقهقر والالتفاف على كل ما وعد به “التغيير” من تحولات لصالح الحريات والتعددية والحقوق، والانجرار الى هموم واهتمامات لا تمت بصلة للمصالح الحيوية للعراقيين من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، فقد تحولت التعددية والحريات ببركة شراهة وفضول دول الجوار وما بعدها، ونوع هموم الحشود التي أطلقتها صدمة التغيير، وعدم وجود بدائل حضارية وحداثوية منظمة؛ الى فوضى عارمة شرعت فيها الأبواب لكل من هب ودب بما فيهم أعداء الداء لكل ما له صلة بالحرية والتعددية؛ كي يظهروا بمظهر “الآباء المؤسسون” لمرحلة العدالة الانتقالية.
مثل هذه البيئة والشروط كفيلة بإجهاض أعظم وأرقى البرامج والتطلعات والمشاريع، وهذا ما كشفت عنه الدورة الرابعة للانتخابات البرلمانية، وما تمخض عنها من سلطات للتشريع والرقابة والتنفيذ. جميعهم ومن دون استثناء (من الفاو لزاخو) متورطون بما فرض عليهم من لعبة الصناديق ومشتقاتها وملحقاتها في مجال الديمقراطية والمدونات التي تنتصر لحرية التعبير وتجلياتها على أرض الواقع، لذلك نجدهم لا يكلون ولا يملون من استثمار كل فرصة او حدث كي يفرغوا هذه المنظومة الوافدة (التعددية والحريات) من محتواها الاصلي. وهذا ما حصل مع الغالبية المطلقة لوسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع ولم يختلف الأمر مع بقية المنصات الإعلامية والتي عادت لممارسة دورها كأبواق لمحظوظي العهد “الجديد”. علينا التوقف كثيرا عند المفارقة الأهم في هذا المشهد الغرائبي؛ والتي تتجلى بشكل واضح بين حاجة العراقيين الملحة والعظيمة لتفعيل اركان هذا المبدأ المجرب (حرية التعبير) الكفيل بالكشف عن أجمل ما لديهم من ثراء التنوع والخلق والابتكار، وبين شغف وإصرار هذه الطبقة السياسية بشتى عناوينها وتمترساتها لاسترداد وترسيخ دورهم بوصفهم أوصياء على شعوب وقبائل وملل ومكونات لم تصل لسن التكليف الحضاري بعد…!
جمال جصاني
لحرية التعبير بيئة وشروط
التعليقات مغلقة