الأدب المغربي وشِبْاك الأضواء الفرنسية

 

ابتسام يوسف الطاهر

معظم ما قرأت من المنتج الأدبي المغربي هو ما ترجم عن الفرنسية، فالكثير من كتابهم يكتبون بهذه اللغة. منها رواية «ليلة القدر» أو «الليلة المقدسة» حسب ترجمة العنوان الحرفية عن الفرنسية، للطاهر بن جلون الذي يرفض الكتابة أو الحديث باللغة العربية.
الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، رأى النور في عهد الحماية الفرنسية، وهو ما جعل مسألة الهوية تشكل واحدة من مكونات النسيج القصصي للرواية المغربية والمغاربية ككل، فهذا الجنس الأدبي شهد بعد نصف قرن من الاستقلال تطورات وتغيرات عديدة. الناقد المغربي عبد الله بيضة، يقول أن «الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية أصبح حالياً يلامس قضايا كونية مع التشبث في الوقت ذاته بالجذور المغربية».
وبالنسبة للجيل الأول من الكتاب المغاربة «إدريس شرايبي وأحمد الصفريوي ومولود معمري» وحسب الناقد بيضة أن نتاجهم كان بنحو عام رد فعل تجاه الاستعمار واتخاذ موقف سواء إزاء الثقافة الغربية، خشية الوقوع في براثن الاستلاب. أو حيال ثقافة المنشأ تحت طائل التحجر. بل وذهب بعض الكتاب إلى حد إعلان القطيعة مع الأدب بلغة موليير بتهليلهم للقومية العربية.
لكن في الوقت الراهن، تغيرت الرؤى والمتطلبات الاجتماعية والثقافية فصار ثمة تنامٍ لأدب جمع بين هاتين الثقافتين واللغتين لرسم جمالية متأصلة ارتبطت بأعمال ملتزمة غداة الاستقلال، مثل كتابات عبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبي. لكن هذا الجيل تحول في أواخر السبعينيات من القرن الماضي نحو التجارب الفردية، فالكاتب لم يعد يعدّ نفسه كمتحدث باسم الشعب. فظهرت كتابات عديدة تتعرض للتجربة الشخصية أو السيرة الذاتية للكاتب أو تجارب حياتية بأسلوب سردي فيه شفافية بلاغية أحياناً أو مبالغة باختيار المصطلحات العربية المفعمة بالإنشاء أو الرمزية. حسب ما يراه القارئ.
والنقد يلعب دوراً في تسليط الضوء على العمل الابداعي. لكنه كما هي الحال في معظم البلدان العربية، حركة النقد بعيدة عن الموضوعية والمنهجية. فحسب الناقد المغربي خالد زكري «النقد الممارس تحضر فيه الزبونية والزمالة. فالحديث عن النصوص في كل الجرائد الناطقة بالعربية، إما أن تمجد أو تذم. لا تقدم قراءات موضوعية من وجهة نظر جمالية أو أدبية… وهناك تجاهل لبعض الأقلام مثل (محمد لفتح) هو مثال عن الحيف الممارس على الكتاب الذين لا يدخلون في حسابات خارج الأدب. فقد صدرت له رواية «آنسات نوديا» في سنة (1992) ولم تتحدث عنها الجرائد في المغرب كأن الكتاب لم يصدر. مع انها رواية من أهم ما كُتِب باللغة الفرنسية لمغربي في التسعينيات. فهناك خلط بين العلاقة مع الكاتب كشخص اجتماعي، وبين النص الأدبي ككتاب له حياة مستقلة».
فمعظم الكتاب يجهلهم القراء للأسباب التي ذُكرت عن النقد أو لأنهم لم يغامروا في كتابتهم والدخول في نفق المحرمات التي تستهوي فضول القارئ الاعتيادي. والأهم تستهوي الغرب الذي يسارع لتسليط الأضواء على كل ما يعري المجتمع المحافظ التي ما زالت تحكمه تابوات التحريم. فالكثير من الذين يكتبون الرواية باللغة الفرنسية بالغ بعضهم في الحديث عن الجنس والشذوذ الجنسي وبشكل صادم! أو الحط من القيم الاجتماعية والدينية التي تعد من المقدسات لدى عموم الناس في تلك البلدان. ليستقطب اهتمام الآخر ويصير محط اهتمام وجوائز وترجمات.. وبعدها يبدأ اهتمام مواطنيه بالمنتج ذاك خاصة اذا تعرض للمنع كما حصل مع رواية محمد شكري. فبالرغم من كتابة روايته أو سيرته الذاتية في السبعينيات لكنها أثارت ضجة في الأوساط الثقافية المغربية بعد نشرها بالعربية العام 1982. «كان هناك إجماع على منعها في المغرب وفي عدد من الدول العربية، وهذا ما أعطى قيمة كبيرة للسيرة الذاتية الروائية» كما يقول صديق محمد شكري عبد اللطيف بن يحيى في احد المواقع الالكترونية. فالمنع كان بمنزلة دعاية للعمل واستثارة فضول القارئ. بالرغم من استنكاره حتى من قبل عائلة الكاتب فأخته مليكة قالت: «إننا نرفضُ رواية «الخبز الحافي» لما ورد فيها من مشاهد جنسية صادمة، وكذلك لتطرقها إلى علاقة الأب مع الأسرة التي كان يطبعها العنف».
ربما هذا أحد الأسباب التي جعلت الكثير من الكتاب في المغرب العربي يركزون على الجنس بطريقة فاضحة تطغي أحياناً على جمالية لغة السرد الشاعرية. مما يقلل من قيمة العمل الفنية. لعدم ترك مساحة للخيال لدى القارئ. اضافة الى اقحامها في بعض المشاهد. فالقارئ الواعي المهتم بالأدب يجد ان بعض تلك المشاهد لو حذفت من الرواية لما أثر على تسلسلها الدرامي والأدبي. الا اذا صنفت في خانة الكتب التجارية الجنسية الرخيصة التي لا تحتوي على قصة أو فلسفة.
فالكاتب الذي تنأى عنه أضواء (الفرنجي) نادراً ما يحظى باهتمام النقاد أو الأوساط الأدبية من أبناء جلدته! والغرب كما قلنا يهتم بمن يتعرض عمله للمحرمات لاسيما الدين والجنس. ولمن لا يتطرق للغرب المستعمر قديماً وما خلفه من جهل ولا المدمر الحالي ودفعه لمعظم الشعوب الفقيرة إلى هاوية التطرف الديني.
فالشاعرة وداد بنموسى لا تجد حرجاً في الاعتراف إن ما تكتبه عن الجنس هو نتيجة تجربة ذاتية: «التجربة الشخصية هي التي تغذي أي كتابة وأن المصدر الحقيقي لها هو الذات» حسب ما كتبته ريم نجمي. الشاعرة هنا تلغي عنصر الخيال لدى الكتاب والشعراء، فبعضهم يكتب عن تجارب لم تخرج من أدراج الأمنيات المغلقة. فالشاعرة أحلام مستغانمي تقول: «أن الكاتب لا يكتب بالضرورة عن الحب انطلاقاً من تجربة شخصية، وإنما يكتب انطلاقاً من ذاكرة الحب».
وأكثر من تعرض للهجوم والنقد اللاذع هو الطاهر بن جلون. فالناقد د.عبد الله الشارف يقول عنه: «لا تكاد تخلو رواية واحدة للكاتب الطاهر بن جلون من الصور والمشاهد الجنسية، أو الكلام الفاحش، لدرجة تحس معها إما أن الكاتب في طفولته مر بأحداث اجتماعية ونفسية سببت ثورته على القيم الاجتماعية والتقاليد والأعراف. أو أنه بعد اطلاعه على الأدب الفرنسي المكشوف والخليع استهواه ووقع في أسره».
ففي رواية «ليلة القدر» التي كتبها بن جلون لإدانة العنف ضد المرأة وضد ظاهرة كره الإناث إلى حد التنكر لأنثوية بعضهن وإجبارهن على التشبه بالرجال. فيها مشاهد صريحة للجنس. لكنه كتبها بلغة شاعرية مفعمة بالخيال والسريالية وتماهي الحلم بالواقع، إذ فيها فلسفة الكاتب عن الحياة والدين والجنس. «يجب أن يعاش الدين في صمت وتأمل وليس في جلبة تكدر صفو الملائكة». لغة الشخوص على اختلاف ثقافاتها وخلفياتها الاجتماعية كانت لغة موحدة هي لغة الكاتب نفسه. فبطلة الرواية، المسلوبة الأنوثة والمتحررة تواً من سجن قناع رجل فرضه أبوها ليتباهى بابنه الوحيد وليحرم أخاه الجشع من الميراث. «لا أعلم بأن ذاكرة مملوءة بأنواع الصمت والنظرات المتقطعة يمكن أن تصير كيساً من الرمل يعسر معه السير»ص5
فازت الرواية بجائزة (الغونكور) الأدبية وهو أول كاتب عربي، يفوز بهذه الجائزة ذات الشهرة العالمية، فهي تجلب الأضواء والكسب المادي للفائز، فقد بيع من رواية «ليلة القدر» بعد أسبوعين فقط من صدورها،271000 نسخة.
لكن الكاتب المغربي أحمد عبد السلام البقالي انتقد الجائزة والكاتب.. «حافظت جميع الأكاديميات المشرفة على منح جائزة (الغونكور) على وصية الكاتب الراحل (أدمون دوغونكور) بمنح الجائزة لمن يسير على خطاه. فلجنة الجائزة غير حرة في اختيار العمل الإبداعي. بل هي مشروطة ومقيدة بقيود فرضتها عقلية من القرن الماضي لتخليد أسلوب تدقيقي وتفصيلي وتطريزي تجاوزه العصر الحديث، عصر السرعة والثراء الإعلامي.. والطاهر بن جلون يدرك كل هذا، ورغبة الفرنسيين في الإبقاء على جذوة لغتهم وحضارتهم مشتعلة في دول المغرب العربي الذي أوشك على الإفلات منهم ثقافياً، كما أفلت سياسياً. فأدخل الكاتب كل هذه المعطيات في حسابه للفوز(بالغونكور)».
فالبقالي يرى أن بن جلون فصّلَ الرواية على وفق شروط الجائزة ليتمكن من الفوز بها ابتداءً من أسلوب (الغونكور) المغرق في الوصف، الى تقسيم الرواية في اثنين وعشرين فصلاً معنوناً تماماً كما أوصى بذلك (أدمون غونكور). ويعلل رفضه للرواية أيضاً:»لأنها لم تعجب السواد الأعظم من المغاربة، بل والعرب والمسلمين، فهي مكتوبة ومحبوكة بعقل ميكافيللي يؤمن بأن (الغاية تبرر الوسيلة). والغاية هنا هي الحصول على الجائزة بأي ثمن».

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة