( محنة فينوس) مصداقا
1ــ2
عبد علي حسن
مقدمة
استطاعت الرواية العراقية المعاصرة ان تتماهى وتستجيب لأعنف تحول في بنية المجتمع العراقي عبر تأريخه الطويل ، فمنذ نيسان 2003 ولحد الآن والروائيون العراقيون بمختلف الأجيال التي ينتمون لها يجهدون في رفد المكتبة العراقية والعربية بمئات الروايات التي توزعت على محورين ، الأول فحص ومعاينة معطيات البنية السابقة للتحول والكشف عن الانتهاكات التي تعرضت لها شخصية الفرد العراقي خلال العقود الأربعة التي هيمنت فيها الدكتاتورية والنظام الشمولي على مقاليد البلاد والعباد ، والثاني هو الاستجابة ومحايثة معطيات وافرازات هذا التحول الذي نجم عنه الظهور القوي والعنيف للتضادات القومية والدينية والعرقية والطائفية التي اتخذت الطابع المسلح والاحتراب بين ابناء الوطن الواحد والدين الواحد ، وكان من نتائجه انتهاك الوجود الانساني والخراب الإجتماعي والبيئي والاقتصادي كما دفع ثمن ذلك الاحتراب ألآلاف من النساء والاطفال والشيوخ والآلاف من القتلى موزعين على مساحة واسعة من ارض الوطن ، كما وتبدى الخراب الواضح في المدن التي خسرت بناها التحتية فضلا عن ابنائها ، ونتيجة لهكذا وضع اجتماعي ملتبس ومعقد فقد وجد الروائيون ان لامناصة من الاستجابة والاقتراب من حركة الواقع العراقي الجديد وجعله الجسر الذي سيقيم العلاقة القوية بين المنجز الروائي والمتلقي العراقي الذي يعد واحدا من مكونات هذا المشهد الدامي ولتكون بحق ديوان العرب معبرة عن المعاناة الحقيقية للمواطن العراقي كاشفة عن قبح الواقع برؤى فنية حديثة مقتربة من الآليات السردية المعاصرة ، ولعل من المظاهر الجديدة للرواية العراقية المعاصرة لهذا الواقع والتي لم تشهدها الرواية العراقية سابقا هو ظهور (الديستوبيا ) كظاهرة تعلن عن فساد المدينة العراقية بكل تمظهراتها الحقيقية لا المتخيلة في اكثر من منجز روائي ، وهذا ماسيحاول بحثنا من الكشف عنه بعده هدفا له ، كما وتتبدى مشكلته في السؤال التالي :- ماهي تمظهرات ظاهرة الديستوبيا في الرواية العراقية وافتراقها عن المفهوم العام والاصطلاحي لهذه الظاهرة؟ ونرى بأن اهمية البحث تكمن في ضرورة الملاحقة النقدية للظواهر الجديدة في الرواية العراقية بعد التحول في بنية المجتمع العراقي في نيسان 2003 اذ لم نعثر على دراسات وبحوث نقدية مكرسة لدراسة هذه الظاهرة في الرواية العراقية المعاصرة سابقا ، وعلى المستوى الاجرائي الذي شكل حدودا للبحث فقد اخترنا ثلاث روايات انجزت بعد عام 2003 لتكون نماذجا تؤشر لتمظهرات الديستوبيا في الرواية العراقية وهي :-
1- محنة فينوس للروائي أحمد خلف / دار الينابيع للطباعة والنشر / دمشق ط اولى 2010
2- فرنكشتاين في بغداد للروائي أحمد سعداوي / دار الجمل/2013
3- أحمر حانة للروائي حميد الربيعي / صفصافة للنشر والتوزيع/مصر / ط اولى2017
وسنقوم برصد تمظهرات الديستوبيا في الروايات العراقية المعاصرة التي اشرنا اليها تباعا وفق سنة نشرها .
مفهوم الديستوبيا
تشكل الديستوبيا مع اليوتوبيا ثنائية متضادة ، فإذا كانت اليوتوبيا هي مايجب ان يكون عليه المجتمع المثالي من فضائل وعادات وقيم وأخلاق، فإن الديستوبيا Dystopia ومعناه في اللغة اليونانية المكان الخبيث ، وعلى مستوى الأدب فهو حسب تعريف الانكلوبيديا ( ادب المدينة الفاسدة ، مجتمع خيالي، فاسد او مخيف او غير مرغوب به بطريقة ما ، وقد تعني مجتمع غير فاضل تسوده الفوضى ، فهو عالم وهمي ليس للخير فيه مكان ويحكمه الشر المطلق ) .
وتتمظهر الديستوبيا وفق مستووين الأول مادي منظور كالقتل والقمع والفقر والخراب والعنف والمرض والفقر وكل مظاهر انتهاك الوجود الانساني ، اما المستوى الثاني فيتبدى او يتمظهر في الخراب النفسي الداخلي للانسان كالافتراق عن المباديء وشيوع مظاهر الخداع والغش المعبرة عن فساد النفس البشرية ، فيتحول المجتمع الى مجموعة من المسوخ البشرية التي يقتل بعضها البعض ويتجرد فيها الانسان عن انسانيته .
ونرى بأن تبدي مظاهر الديستوبيا في المنجز الأدبي والروائي تحديدا هو محاولة تسليط الضوء على الواقع الفعلي للمجتمع ومايعتمل فيه من قضايا تتعلق بالمجتمع والدين والسياسة والقيم الروحية بشكل متخيل يستمد تمثلاته الواقعية والغرائبية من الواقع المعيش ، لذلك فإن هذا التمظهر يتخذ شكل التكهنات والتنبؤات لماسيحصل في المجتمع من انهيار القيم المجتمعية والكوارث البيئية والأمراض والقمع السياسي . ولعل من ابرز الروايات الديستوبية هي رواية (1984) لجورج اوريل ، و (في ممر الفئران) للكاتب المصري أحمد خالد توفيق والروايات العراقية التي أشرنا اليها آنفا لتكون عينات بحثنا
للكشف عن تمظهرات الديستوبيا في الرواية العراقية التي ظهرت بعد عام 2003 بسبب من مخرجات حركية الواقع العراقي لتسلط الضوء على القضايا الموجودة في العالم الواقعي المتعلقة بالمجتمع والانسان تخيلا وافصاحا .
محنة فينوس/ أثينا والخراب المزدوج
يشير الروائي أحمد خلف في العتبة الثانية لروايته ( محنة فينوس) الصادرة عن دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع/ دمشق ط اولى 2010 ، الى ( لاجدوى من البحث عن بدائل في واقعنا اليومي عن أشخاص وأحداث هذا النص لأنه استمد عناصر تأليفه من الخرافة أصلا ….. النص ص5) وهي إشارة درجت على تثبيتها العديد من الأعمال الادبية والفنية لتفادي مبدا المطابقة الحرفية بين الواقع والمتخيل الروائي أولا وللفت انتباه المتلقي الى وجود مرجعية او وضع إحالي لماسيرد في الرواية الى اشخاص او احداث قد حصلت فعلا ، وذلك لتنشيط ذاكرة المتلقي باتجاه معرفة ماهو مستبطن ومضمر في حركية الواقع وفاعلية الاشخاص والاحداث على تشكله وبيان أثره في الواقع الروائي ، وفي الهوامش التي وضعها المؤلف في الصفحة الأخيرة من الرواية مايشير الى اعتماده الى اسماء الآلهة المعروفة في الميثولوجيا ، على ان هذا الاستخدام في افعال هذه الشخصيات الاسطورية وكذلك الأحداث لاتحيل الى الواقع الاسطوري القار في المدونات وانما قد خضع الى اعادة انتاج وتخليق الحدث الاسطوري والخروقات الحاصلة في حيثيات الروي انما هي ( جاءت تلك الخروقات للضرورة الفنية والنصية تحديدا … النص ص151) كيما يتمكن المؤلف من معالجة مايواجه المتلقي في واقعه المنظور والمكتشف وترحيله الى الواقع الفني لتحقيق ماهو جمالي ومعرفي في مااستبطنه الواقع ، وبمعنى آخر فإن وراء هذا التخليق الاسطوري للروي هو دفع المتلقي الى التجاوز النصي لظاهر الأحداث لتأويلها واستخلاص مغزى معينا ، ومن هنا ستكون معاينتنا لتمظهرات ال (ديستوبيا) في الرواية موضوع البحث .
تظهر مدينة (اثينا) في الرواية بعدها المكان الذي يحتضن الأحداث والشخصيات بما فيهم الراوي كلي العلم الذي يتبنى حكاية ماجرى للمدينة التي ستدفع الثمن غاليا لحرب ليس لها ولأهلها ناقة ولاجمل ، اذ كانت ضحية لصراع الآلهة على سلطان ( الاولمب) الذين لايعنيهم من أمر اثينا وسكانها سوى اداء فروض الطاعة والولاء للآلهة المفوضين لإدارة شؤون البلاد والعباد ، ولوضع المتلقي في منطقة التفريق بين الوضع الذي كانت عليه والوضع الذي انتجته بنية الصراع بين الآلهة فإن الراوي يشير الى ( أثينا التي يقر الجميع بجمالها وصفاء مناخها وطيب سريرتها وجدية أهاليها في بحثهم الدائم عن سبل عيش تكفل لهم الحفاظ على بقايا كرامتهم ، والقدر اليسير من حريتهم .. النص ص 8 ) وتشير معطيات النص السالف الى الصلة الحميمة بين المكان ( أثينا) وأهلها ، فهي تتمتع بجمال المظاهر الخارجية وكذلك صفاء مناخها وطيب سريرتها مع تمتع اهلها بالطيبة والجدية وانشغالهم بتوفير سبل عيش كريمة ، ولعل مفردتي (بقايا كرامتهم ) و ( القدر اليسير من حريتهم) تحيل الى وجود خسائر جمعية بوجود الآلهة المتسلطين ، ( الكرامة والحرية) وهما اغلى مايملكه البشر كمقومات وجودية ، وعلى الرغم من ذلك فإن حالة القناعة بهذا النزر اليسير من الكرامة والحرية يعد وضعا من الممكن احتماله خشية فقدانه بالكامل ، ويلاحظ في هذا المقام ان (أثينا) كمكان يتأثر سلبا او ايجابا بالحال والوضع الذي عليه أهاليها ، وسيتضح ذلك فيما بعد فضلا عن الوصف الذي ذهب اليه النص السالف . فالمتخيل السردي في الرواية يؤكد الوضع التبادلي لمظاهر القبح والجمال بين المكان والانسان ، وهي علاقة طردية تظهر على نحو واضح في تأثر ظاهراتية المكان بالانسان .