رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 51

حوارات مع جرجيس فتح الله*

س: يعترض سؤال هنا طالما راودني: عودنا كثير من الكتاب العراقيين الذين يتناولون احداث العراق على رؤية اليد البريطانية وسفارتها في العراق في كل حدث او واقعة ويؤكدون ان لا شيء يحصل في هذه البلاد الا وللبريطانيين ارادة فيه، وانهم كانوا يوجهون دفة السياسة المحلية ويتدخلون مباشرة في كل كبيرة وصغيرة وهم الذين يأتون بالحكومات ويزيحونها والبريطاني هو وراء كل زاوية وكل منعطف فان كل الامر كذلك وسياقا على هذا فقد سيستنتج بان للبريطانيين يدا في وجود الكيلاني على راس حكومة او وزير للداخلية في الاحيان التي يروق لهم ذلك. واذ ذاك يحق ان نشرك البريطانيين في جنايات الكيلاني على الحريات العامة وانتهاك الدستور ان لم نعز اليهم التبعة الكبرى اليس كذلك؟
ليس من السهولة بمكان اعطاء جواب واف في مثل هذه المعالجة والحيز الضيق لكني سأحاول بقدر ما له علاقة بما ساتحدث عن الكيلاني ولاسيما في اطار حركة مايس 1941.
فكرة رؤية بريطانية في كل منعطف وزاوية من زوايا السياسة العراقية تنطوي على خطا جسيم يؤدي الى استنتاجات مضللة كان البريطانيون- بالسياسة الجديدة التي انتهجوها- يريدون التخلص من هذه التبعة بأعجل ما يكون عن طريق تخلصهم من مسؤوليات الانتداب بسبب ما يكلفهم ذلك من اعباء مالية باهظة وقد كفتهم المعاهد وامتيازات النفط تامين مصالحهم قد يحصل احيانا ان يدلى السفير براي حكومته في اسناد منصب وزاري الى وزير معين او تكليف احدهم بتأليف وزارة لكن الراي سيبقى استشاريا بحتا اذ لا يصاحبه تهديد بتوقيع عقاب او حرمان من امتياز في اكثر الاحيان وانا اتحدث عن فترة الاستقلال- كان ينصح السفارة عرض الحائط كما ازدرا احتجاج الحكومة البريطانية على تهريب الحاج امين الحسيني من لبنان الى العراق والقى به من سله المهملات وكما حصل فعلا في معالجة المشكلة الاشورية لم يلتفت الكيلاني الى مناشدة الحكومة البريطانية المحلة بالكف عن المضي في الحل العسكري وكما حصل ايضا عندما توسطت السفارة البريطانية عند رشيد عالي في قضية الايزيدية فقد حذرت السفارة واحتجت الكلمة للكيلاني في شنقهم كذلك كان من سياسة وراي الحكومة البريطانية ان لا تعالج شكوى الكورد في العراق بطيش ونزف الحل العسكري وان يتفادى اراقة الدماء باي وجه من الوجوه فيتغلب الحل العسكري الذي يتخذه حكام بغداد بعيدا عن التأثير البريطاني والأمثلة كثيرة والمسالة هي ان هؤلاء الكتاب والمؤرخين انما يستخدمون الوصفة البريطانية اي التدخل البريطاني كلما ارادوا التغطية على سوء نصرف او عثار يقدم عليه مسؤول عراقي عليك الان ان تقدر وعلى ضوء حركة مايس كم كان رشيد عالي موضع اعتماد البريطانيين وكم كانت يدهم فعالة في حماية مستقبله السياسي او تزكيته للمناصب الخطيرة او في مقدرتهم على احتواء اندفاعه ونزواته لاسيما وقتما كانت بريطانية تجتاز اخطر مرحلة من تاريخها انها مزاعم لا سند من الواقع لها.
خلال فترة امتدت زهاء سنتين (1934-1935) اتخذ الصراع بين كتل الطبقة الحاكمة على السلطة وجها بشعا يؤذن بانتقال الى مرحلة العنف فلاول مرة في تاريخ الوزارات العراقية حرقت المكائد والدسائس لاسقاط الحكومات جدران المنازل والقصور لتنزل الى الساحة العامة مورطة قطاعات معينة من ابناء الشعب عن طريق الهاب الشعور القومي بشتى المزاعم والتعاليل او عن طريق الاستعانة بشيوخ القبائل وعشائرهم وعن سبل التهديد المسلح بالجيش وليس هناك شك في ان الكيلاني كان اول من قطن الى قوة عشائر الفرات الاوسط في اسقاط الوزارات فنجح في استخدامها اربع مرات لاسقاط اربع حكومات متوالية خلال فترة قصيرة لكنه كما اشرنا- لم يكن يدري كما يبدو ان صاحب براءة الاختراع عرضة للتقليد وانه قلما يستطيع مخترع الاحتفاظ ببراءة اختراعه سرا عن الاخرين.
حركة مايس 1941
س: ما هو تقويمكم لحركة مايس بعد ان سبق وبينتم رأيكم فيها؟ واين تضعونها من التاريخ؟
بالاول كانت جزءا من لعبة المعاهد التي اتقنها الكيلاني في مفتتح حياته العامة وكان النجاح حليفة في اغلبها تفوز له كما راينا برئاسة الحكومة مرة وبوزارة الداخلية مرة اخرى لكنه لم يكن وحده عندما بدا بها في اواخر العام 1940 فقد كانت هناك قوة معينة لابد من الاستعانة بها او ترويقها او تحييدها غير قوى القبائل كان هناك الضباط العقداء الاربعة الذين يسيطرون على الجيش وقد قاموا بثلاثة انقلابات سابقة وكان هناك القوميون العروبيون الذي يمثلهم (نادي المثنى) وكان هناك الحاج امين الحسيني وصحبه الفلسطينيون وكان هذا في فترة من الفترات يصول ويجول عابثا بالوزارات وبرجال الدولة الكبار بسبب استسلام العقداء الاربعة لادراته.
وقامر هؤلاء بمصير البلاد ووقعت هذه الجهات الثلاث تحت تأثير الدعاية النازية بمقادير متفاوتة وكان الحاج امين قد ربط مصيره بمصير دول المحور وحقق صلات وثيقة بها والدعاية النازية قد غرت عقول القوميين العروبين ونفذت الى اعماق عقائدهم وللكيلاني ماض قومي منذ 1933 وان كان لا يقيم للقومية والعروبية وزنا الا انها كانت الموضة الشائعة وهناك واحد من اقرب اعوانه السيد يونس السبعاوي القومي مترجم كتاب (كفاحي) الى العربية.
هؤلاء قامروا بمصير البلاد وشاؤوا باعين مفتوحة وارادة حرة اقحام الشعب العراقي في تلك الحروب العظيمة المشتعلة والعراق بعيد عنها كل البعد تامروا بمصير البلاد واهلها بإصرار غبي عنيد ودفعوا بها الى مواجهة عسكرية بائسة فاشلة منذ بدايتها ولم تكن تدعو اليها ضرورة قومية ولا فائدة وطنية ولا كسب مرجي منها وتلك النتيجة المحتومة التي الت اليها بدل ان تكون سببا لشجبها وادانة تاريخية للقائمين بها كانت سببا وعلة وهنا موطن العجب لتمجيدها وتخليدها وانزالها منزلة حركات التحرير الكبرى.
وكما قلت واكدت: لم يكن الكيلاني في اي وقت من الاوقات قوميا عروبيا لكنه وجد حلية خلابة ومرفاة لم يكن عراقيا وطنيا يعمل للعراق ولاهل العراق ولا انسانا ذا عقيدة يدافع عنها ويبذل لها ويحترم لاجلها كان رجلا تمثلت فيه انتهازية حيل من الحكام الذي نشأوا في فقر وخصاصة فانعكست في حبهم جمع المال مع جمع السلطة وكانوا يؤدون رقصاتهم على جبال الانانية وحب الذات ولم يرث الكيلاني شيرا من ارض لكنه انتهى بامتلاكه الافا من الدونمات وقصرا باذخا وسهاما في زراعات كبير وجابهه (المهداوية) اثناء المحاكمة بهذا ولم يملك جوابا ولو يقدر ما يجيب به طفل روضة الاطفال عندما يسال عن سبب تلوث يديه بالتراب.
وسؤالك يتضمن مطالب او شعبا ثلاثا ساحاول الاجابة عنها دون تبعيض. اقول اولا: وجد الكيلاني نفسه في ورطة هذه المرة عندما هاجم المعاهدة البريطانية- العراقية وابى ان يسمح بمرور او بقاء للقوات البريطانية خلال العراق او في العراق كما نفرضه صراحة المعاهدة وكان هذه المرة بزوال الحكم عندما واجه الموقف وقبل ذلك كان كما قلنا يعارض المعاهدة اثناء وجوده خارج الحكم فاذا اسند اليه الحكم انتفى الغرض من معارضتها واعلن تمسكه بنودها ولكنه رفع الان في مازق كان القوميون العروبيون والضباط الاربعة يريدون ان يكونوا مع الغالب في الحرب الدائرة والبوادر كلها تشير الى ان دول المحور ستحرز النصر وان شمس الديمقراطيات تميل الى الغروب والاعين عميت عن رؤية مصائر الدول والشعوب التي كانت تهوى بقاس الغازي واحدة اثر اخرى ورغم ان النظامين الفاشين لم يحاولا أخفاه او تكذيبا لما عرفه العالم عنهما من الاساليب الدموية التي مارسها ضد مواطنيهم المعارضين في الداخل التي خرت صريعة تحت اقدامها.
وقد علم المؤتمرون ومنهم الحاج المفتي نفسه ان لا امل هناك يرجى من استقلال او شبه استقلال للبلاد الناطقة بغلة الضاد في ظل حكم نازي او فاشي واذا كان هناك استعمار فسيكون استعمارا اشد وانكى من النوع البريطاني كان الحاج المفتي وناجي شكوت المفاوض العراقي للالمان في انقرة يعلم انه في السادس من شهر شباط 1941 تم عقد مؤتمر سري بمقر اركان المخابرات العسكرية للجيش الالماني- ضم مندوبين من القيادة العليا وموظفين كبارا من وزارة الخارجية وكان ابرز المجتمعين الدكتور فريتز كرومه الوزير المفوض الالماني في بغداد ابو الدعاية النازية في العراق الذي استقطب حوله القوميون العروبيون. وانبثق عن الاجتماع لجنة اطلق عليها (اللجنة العربية) لوضع خطة لاثارة فلافل واضطرابات في البلاد الناطقة بالعربية التي تخضع للنفوذ البريطاني على ان لا توذي مهما كلف الامر الى تورط عسكري محوري فيها بخل بخطط القيادة العليا وتوقيتها الزمني
لم يكن القائمين بحركة مايس يعرفون طبعا بان من مقتضى الخطط الالمانية غزو الاتحاد السوفيتي الاتحاد السوفياتي وان الالمان غير مستعدين مطلقا لفتح جبهة في العراق جديدة مع هذا كله راح ابطال حركة مايس يرسلون مندوبيهم للتفاوض على تحرير البلاد العربية وتحقيق استقلالها الناجز واقامة الوحدة العربية كما ورد في كتاب (كمال عثمان) مندوب الحاج المفتي ومبعوثه الشخصي، بل راحوا يستجدون من هتلر او موسوليني تصريحا واحدا.
والكيلاني ورهطه القوميون الذين اجتمعوا للمقامرة بمصير البلاد لم يكونوا كما ترى وفي اي وقت من الاوقات اكثر حرصا على مصلحة شعبهم وائد وطاة على النفوذ البريطاني من ذلك الرجل الهندوسي النحيل المدعو (ومهاتما غاندي) الذي كان ان ذاك يقود اعظم حركة عصيان عرفها العالم ضد الامبراطورية لم يتردد قط وقد رأى جيوش النازية تجتاح العالم الحر لم يتردد قط في وقف عجلة العصيان واعلان الهدنة مع مستعمري بلاده بل سمح بمشاركة الهند بالمجهود الحربي وشجع سكان هذه القارة على الانخراط في صفوف جيوش الحلفاء دفاعا عن المثل الديمقراطية وحذا الاخرون حذوه وتحول نضال زعماء الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار الهولندي والفرنسي والبريطاني جنوب شرق اسيا الى مساندة بوجه اليابان الشريك الثالث في دول المحور وقتال الغزاة الى جانب جيوش الحلفاء.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة