حفريات في الذاكرة العراقية

(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 1

أ.د. أنعام مهدي علي السلمان

الفصل الرابع
النشاط السياسي لرشيد عالي الكيلاني
بعد ثورة 14 تموز 1958
يعد رشيد عالي الكيلاني من الشخصيات التي أدت دوراً كبيراً في الحياة السياسية للدولة العراقية منذ تأسيسها في عام 1921 . تسلم العديد من المناصب الوزارية وزيراً او رئيساً للوزراء فضلا عن انشغاله رئاسة الديوان الملكي.
لقد كان الدور السياسي لرشيد عالي الكيلاني واضحا خلال حقبة العشرينيات والثلاثينيات حتى أربعينيات القرن الماضي حينما اسقطت وزارته التي شكلها في 12 نيسان 1941 بقوة البريطانيين ،واضطر الى الهرب ،والعقداء الاربعة ، الذين كانوا يؤيدونه بتبني الافكار القومية ، الى خارج البلاد اثناء الاحتلال البريطاني الثاني للعراق .كانت المحطة الاولى للكيلاني ايران التي سرعان ما غادرها الى تركيا. وفي تركيا استطاع بمساعدة من الالمان اللجوء الى برلين ،لكن بعد انهيار المانيا استطاع الكيلاني من الهرب حيث تنقل بين اكثر من دولة منها بلجيكا وهنغاريا التي مكث فيها شهرين ، وفرنسا حيث نجح من الهرب من ميناء مرسيليا ، متنكرا بهيئة عتال ، بباخره اسمها مراكو (مراكش) وهذه الباخره اجرتها الحكومة السورية لنفل الطلبة السوريين الى السواحل اللبنانية حتى وصل الى بيروت متخفيا في تموز 1945 ،لكن الكيلاني لم يمكث طويلا اذ سرعان ما غادر الى دمشق ومن هناك انتقل الى المملكة العربية السعودية باعتباره تاجراغنام يبحث عن اغنامه الضائعة ليصل المملكة العربية السعودية حيث منحه الملك عبد العزيز ال سعود الشهير بابن سعود (1003-1953) اللجوء وعينه مستشارا له شرط ابتعاده عن التدخل في الشؤون السياسية وعدم اثارة المشكلات مع العراقيين .
ظل رشيد عالي الكيلاني بعد رحيله بعيدا عن الحياة السياسية العراقية لا سيما وانه كان يتنقل لاجئا من مكان لاخر ، لكن الحكومة العراقية ظلت تتابع أخباره من حين لاخر ، ففي 1949 اقترح الامير سعود بن عبد العزيز ال سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية على الحكومة البريطانية امكانية عودة رشيد عالي الى العراق لانه لا يريد ان يسبب وجوده اية مشكله بين البلدين .كما ارتأى الملك عبد العزيز ال سعود بأن الوضع الانسب ان يتم العفو عن الكيلاني وان تسامحه الحكومة العراقية على ان يصحبه احد الامراء السعوديين في حالة الموافقة .
بعد مدة قصيرة سافر صباح بن نوري السعيد (بوصفه مديراً للسكك الحديد ) الى السعودية للتفاوض بشأن نقل الحجاج العراقيين الى الديار المقدسة ،وخلال وجوده التقى برشيد عالي الذي اخبره برغبته بالعودة لسوء حالته الصحية .في تلك الاثناء سرت شائعات في بغداد بعودة الكيلاني اثر اصدار نوري السعيد رئيس الوزراء عفواً عنه وقد دفع الامر السفير البريطاني لمناقشة الامر مع الامير زيد ووزير الخارجية محمد فاضل الجمالي ،واثر اللقاء وجه السفير البريطاني مذكرة الى حكومته اكد فيها قناعته بان نوري السعيد سيفعل اي شيء لابقاء الكيلاني في الرياض واضاف السفير البريطاني بأنه على ثقه بان ليس هناك اي تحرك للحكومة العراقية دون التشاور مع السفارة البريطانية لاسيما ان الأمير زيد قد طلب المساعدة البريطانية بشأن الابقاء على الكيلاني في الرياض من خلال السفير البريطاني في جدة.
ناقش نوري السعيد الامر مع السفير البريطاني حيث اكد ان عودة الكيلاني الى العراق غير ملائمة وكان اكثر وضوحاً حينما اكد بأنه اذا ما عاد الكيلاني فأنه سيعدم بناء على قرار المحكمة التي حكمت عليه بالاعدام .رغم ذلك وردت نهاية عام 1949 انباء عن النية بالسماح للكيلاني بالرحيل الى سوريا، ويبدو ان ابن سعود اراد ترحيله بأي شكل من الاشكال ،وحينما علمت الحكومة العراقية بالامر فاتحت ابن سعود وجددت تأكيدها لابقاء الكيلاني في المملكة ،لكن الاخير لم يعط للحكومة العراقية اية وعود . أزاء ذلك طلبت من السفير البريطاني التدخل بجدية فقام من جانبه برفع تقرير بهذا الخصوص أرسل نسخة منه الى كل من رئيس دائرة الشرق الاوسط في وزارة الخارجية البريطانية والسفيرين البريطانيين في دمشق وجدة.
ظلت الحكومة العراقية تراقب عن كثب تحركات الكيلاني مدفوعة بمواخفها من عودته الى نشاطه السابق لاسيما اذا ما انتقل الى سوريا وكان نوري السعيد منزعجاً من الاخبار التي كانت ترصد تحركاته لذا طلب رؤية السفير البريطاني في العراق الذي قابله بحضور وكيل وزارة الخارجية شاكر الوادي .
بتاريخ 4 تشرين الثاني 1950 ابدى السعيد انزعاجه من الاخبار التي اشارت بان زوجة الكيلاني واثنتين من بناته طلبن ان يسمح لهن بالعودة الى العراق لكونهن عراقيات ، لكن الحكومة العراقية لم تكترث وزاد من انزعاج نوري السعيد تردد اخبار عن مغادرة الكيلاني الرياض حيث كان السعيد مقتنعاً بان الكيلاني قد انتقل الى منتجع عالية في لبنان مع احد الاشخاص المقربين من ابن سعود ،هو موفق الالوسي الذي وفر له مكاناً لائقاً . لا سيما بعد الانباء التي ترددت عن مغادرة الكيلاني للرياض وكان يعتقد بأن الكيلاني موجود في منتجع عالية بلبنان ويعيش باسم مستعار وبجواز سفر سعودي او سافر الى القاهرة ، لذا اقترح ان يلعب ممثل بريطانيا في كل من مصر ولبنان وسوريا دوراً لالقاء القبض عليه . لكن يبدو من الاحداث اللاحقة ان شكوك نوري السعيد لم تكن في محلها.
بحلول عام 1953 كان الكيلاني ما يزال يقيم في المملكة العربية السعودية لكن الذي اختلف موقف الحكومة العراقية ،اذ بدا نوري السعيد يقتنع بضرورة عودة الكيلاني الى العراق لا سيما بعد ان شهدت منطقة الشرق الاوسط عدة ثورات مثل ثورة 23 تموز 1952 في مصر وحركة مصدق في ايران ،لذلك ارسل ابنه صباح الى المملكة العربية السعودية حيث قابل الكيلاني لهذا الغرض .من جانب اخر استطاع نوري السعيد بادئ الامر من اقناع الوصي عبد الاله بذلك الا ان الأخير سرعان ما تراجع بعد معارضة جميل المدفعي وعلي جودة الايوبي على عودة الكيلاني.
لم يمكث الكيلاني طويلاً في المملكة بعد فشله بالعودة الى العراق ، فقد غادر عام 1954 الى مصر باعتباره متقاعدا سعوديا بعد وفاة الملك عبد العزيز ال سعود وتوتر علاقته مع نجله الملك سعود بن عبد العزيز وخوف الكيلاني من ان يسلمه الى البريطانيين لان الملك الجديد لم يرتبط مع الكيلاني بوعد، وفي مصر قدم الى الرئيس جمال عبد الناصر طلباً في 9 كانون الثاني 1955 لقبوله لاجئاً سياسياً وتم له ذلك. بعد ذلك حاول الكيلاني بكل الوسائل العودة الى العراق حالاً الا ان جهوده باءت بالفشل .
وفي اعتقادنا ان عدم اهتمام حكومة الثورة المصرية به واعتباره مجرد شخصاً اعتيادياً لرغبتهم بتحسين علاقتهم مع البلدان العربية جعله يتخذ هذا القرار .وبعد تدهور العلاقات بين العراق ومصر بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كسر رشيد وشارك في الهجوم على نوري السعيد وعلى الصداقة الانكلو-عراقية ثم اخذ الكيلاني يحاول الاتصال مع بعض العناصر القومية في الجيش العراقي من خلال ابنته نجم الدين السهروردي.
في صبيحة 14 تموز 1958 قامت الثورة في العراق ضد الحكم الملكي وكانت بمثابة طوق النجاة بالنسبة لرشيد عالي الذي كان يصطاف في حينها بالاسكندرية، فلما سمع بالنبأ عاد فوراً الى القاهرة بقطار خاص هيأته له الحكومة المصرية واستقبل في القاهرة استقبالاً رسمياً لخطأ وقعت فيه المخابرات المصرية بخصوص الدور الذي سيوكل للكيلاني بعد نجاح الثورة.
بعد مدة وجيزة بدت هناك عدة مؤشرات عن قرب عودة رشيد عالي الى البلاد واعادة نشاطه السياسي ،ويبدو أنه كان يأمل في ان يجد له موطئ قدم في الحياة السياسية الجديدة. ومن هذه المؤشرات ورود بعض المعلمات بأن الكيلاني انتقل الى سوريا بعد قيام الثورة بثلاثة أيام حيث وصلها بتاريخ 17/تموز 1958 وقد برر الكيلاني ذهابه خلال محاكمته الثانية اذ اشار في افادته ” ذهبت الى سوريا كي اكون قريباً من العراق وقد ابلغني نجم الدين السهروردي بأنه اتصل بعبد الكريم قاسم وقريباً سيأمرون بعودتي .ومع ان عبد السلام محمد عارف احد قادة الثورة زار دمشق يوم 18 تموز 1958 الا انه لم يلتق بالكيلاني مكتفياً بالاتصال الهاتفي به، اذ كان عبد السلام غير راغب بعودة الكيلاني لاسباب سنذكرها فيما بعد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة