العالم في عيوننا”.. شاعرات «الضّاد» ينطقن بالألمانيّة

معمر عطوي

جميل هو الشعر خاصة حين يكون قد خُطّ بأنامل ناعمة حولتها خشونة الحياة إلى أدوات للتعبير عن هواجس وآلام، حنين ورثاء، حب ومقت، خضوع وثورة تنتشي بلغة البوح والتمرد. ذاك هو ديوان “العالم في عيوننا” الذي أعدّه وترجمه كل من سرجون كرم وكورنيليا تسيرات، وصدر برعاية جامعة بون الألمانية. ديوان يشكل أنطولوجيا نسائيّة لبنانيّة تضم 37 شاعرة تضمن 174 صفحة جمعت مقتطفات تعريفية بكل شاعرة وقصائد مختارة باللغتين العربية والألمانية.
تقوم فلسفة هذه الأنطولوجيا، التي أقيم احتفال ضخم في بيروت برعاية وزارة الثقافة لمناسبة صدورها، على مقولة مهمة هي “ألوان عالمنا، عالم بلا ألوان”، في إيحاء واضح إلى ما تخفيه كل شاعرة من وجع وحزن خلف قصيدتها الجميلة. تبهت الألوان التي يحملها الظاهر حين ينبري ما هو مخفي خلفها وما أدى إلى بلورتها على صورتها الفنية الجديدة. إذن الشعر هو محاولة تجميل شظف العيش وصعوبات الحياة بصور تعبيرية إبداعية تكفكف دمع المُعاش، خصوصاً في عالم المرأة التي تعيش في مجتمع ذكوري لم يتخلص -رغم كل هذا التطور التكنولوجي الزاحف بسرعة نحونا والذي يربطنا بعوالم مختلفة جلّها قد تخلص من عبودية النساء للرجال- من عقدة “الماتشو” (وتعني بالايطالية الرجل- السيد المتحكم بزوجته وأسرته وأوامره مُطاعة).
هذا ما يلاحظه قارئ الأنطولوجيا في قصائد تم اختيارها بعناية، وإن كانت اللجنة التي اسهمت في انتقاء الأسماء قد وقعت في صعوبة الاختيار أحياناً أو في مطب اختيار ما هو غير مناسب في أحيان أخرى.
لغة وسلاح
لقد وجدت بعض الشاعرات في كتابة الشعر وسيلة للتعبير عن المكبوت وما هو خفي ليظهر من خلال أسلوب تعبيري عميق الدلالات أو صورة شعرية تحمل من المعاني الجمالية ما يكفي لإسكات الألم أو إظهاره بصورة حضارية بعيداً عن العويل والأنين. وربما هو أنين صامت. بالأحرى وجد بعض النساء في القصيدة سيفاً لشهره ضد هيمنة الذكورة والكبت الذي يصادر الحرية والرغبة، فيما وجد فيه البعض الآخر لغة جميلة للتعبير عن وجع وحزن ومعاناة أو حتى فرح وحب ونشوة.
من هنا كانت نظرة بعض المتابعين الألمان للأنطولوجيا نظرة استكشاف لحالات قد تكون جديدة بالنسبة لهم، وهذا كان واضحاً من بعض المقالات التي نُشرت في صحف ألمانية حول هذا الكتاب الذي قدّم للقارئ باللغة الألمانية لمحات عن الذهنية النسائية الشرقية أو اللبنانية بالتحديد. فكتب غيرت فوستمان في صحيفة Signaturen الشعريّة المتخصصة الصادرة في مدينة ميونيخ، يقول “هذا الكتاب بالكامل يمكن أن يكون قراءة لبنانية، تخترق النظرة العالمية حول هيمنة الذكورية، حيث تلعب المرأة دورًا ثانويًا. يصبح من الواضح كيف أن هذه الحركة عالمية، أكثر انفتاحاً على القانون غير المكتوب، حيث تكسر الظلم اليومي خفية ولم تعد ترغب في التوصل إلى اتفاق مع جميع الخطوط الحمراء”.
أما كليمنس فاغنر فقد كتب في صحيفةGeneral Anzeiger الصادرة في مدينة بون، ” إن المجتمع هناك (على الرغم من الأعمال العدائية الفردية بين العديد من الجماعات الدينية، والتي تؤدي دائماً إلى العنف) هو أكثر انفتاحاً – مع نظام تعليم حديث وساحة إعلامية متنوعة. هذه هي القطاعات التي تنشط فيها معظم الكاتبات في الكتاب. هم (مثل العديد من النساء) يعرفون عن التمييز والعنف والصراع بين العيش المستقل وصورة العائلة التقليدية”.
هذا المشروع كان قد سبقه مشروع آخر كان بمبادرة من جامعة بون وأستاذ الأدب العربي في الجامعة الشاعر سرجون كرم أيضاً، تضمن نشر أنطولوجيا حول بعض الشعراء اللبنانيين، إذ تم اختيار قصيدة لكل منهم ونشرها مع ترجمة باللغة الألمانية.
“مصّح عقلي”
لكن الأنطولوجيا النسائية تعدّت مسألة نشر الشعر إلى الحديث عن المرأة والذكورية في المجتمع العربي ونضال النساء كل على طريقتها. خصوصاً أن في لبنان رغم الانفتاح الذي يميزه عن غيره من دول عربية فإن وضع المرأة ما يزال دون المطلوب ولا تزال بعض التشريعات والقوانين تنتقص من حقوقها ودورها في العمل والحياة.
ثمة نصوص عديدة تضمنها الكتاب منها قصيدة “مصح عقلي” للشاعرة لوركا سبيتي تحكي فيها عن البنت التي تعاني من مشاكل نفسية وتمثل أمام الآخرين، تقول:
“صدقت حكايات الجنّ والشياطين
قلّدت العاقلين وتزوّجت عاقلاً طبخت له الأرز
مسّدت سريره
انتظرته طيلة الظهر.
وأنجبت منه أطفالاً عقلاء.
مرّ عمر وأنا اتنفّس هواء العاقلين
آكل خبزهم وأرفع كأسهم،
أدعوهم لزيارتي وأضحك معهم عليهم
ولكنّني ما زلت كلّما نزلت السلالم
يسري بي خدر رائحتُه مصحّ عقليّ
كأنيّ ملتصقة في عناق عالقة بين الحلم ونّهايته…”
الإعلامية ندى الحاج تكتب في “قصة الجسد”:
“قد يكون الجسدُ آخرَ غيرَ جسدكَ
يلبَسُكَ ولا تلبَسُه
تستَسيغُهُ ولا يستَسيغُكَ
قد يكونُ جسدُكَ غريبًا آخر
لا تعرفُه ولا يعرفُكَ
وحين لا يناديك الآخرُ ولا تناديه
يصبحُ الهواءُ نديمَك الأقرب والأليفَ الرّهيف
وكلُّ احتواءٍ آخر يَسري فيك لا يرويك.
تُعانقُ العتمة؟
أُعانقُها
تُعانقُ الهواء؟
أُعانقُه
والعشب وكل ما ينبت من الأرض ويعلو في السماء
لأعانقه في سري ومائي ووحدتي…”
“زمان الجاهليّة”
أما عناية زغيب في “قلق وامرأة” فقد تعرضت لمسألة التراث والدين والتأويل إذ تقول:
“يا سادَتي :
قد عاد يُقلقني
زمانُ الجاهِلِيّةِ …
بعدما عادت حوادثه
تئنّ مرارةً، وتكرّرت …
وكأنّنا لم ندرس التّاريخ،
يا أجدادنا، يا أمّةَ القرآن،
لا بل نحن أوّل أُمّة لم تستفد،
وكأنها ما أبصرت، وتفقّهت …!
يا سادتي:
هل عاد عصر الجاهليّةِ ؟!
ذلك الزمن الذي
وَأَدَ الرّجالُ به النّساءَ،
لأنها أنثى…”.
لعل قصيدة باسمة بطولي “حنظلة البيت” جميلة ومعبّرة، لكن كان من الأفضل ألاّ تتقيّد بالقافية وتترك العنان لكلماتها على طريقة الشعر الحر، لأن الشعر العربي المُقفى يحتاج الى تقنية خاصة لا يبدو أن الشاعرة برعت في استخدامها فافتقدت قصيدتها الى الموسيقى والتناغم اللذين يميزان هذا النوع من الشعر. أما قصيدتها “إرجوحة الأوهام” فبدت أفضل. ونُشِرت قصيدة جريئة لدارين حوماني، بعنوان “دين السفلة” تقول فيها:
“أمّي المصنوعة من فرائض الحياة والصلاة
تنصحني دومًا
ودومًا تقول
أنّها كلمتها الأخيرة لي
أن أعود الى الله
وأن لا أخرج من فراش زوجي
كي أحتفظ بأطفالي

أما إدفيك شيبوب (1919-2002) التي كانت من أوائل المناضلات من أجل حقوق المرأة في لبنان فقد اختير لها نص جميل وممتع بعنوان “قدر”، لكن لا أظن أن زجّه في أنطولوجيا شعرية كان مناسباً، لأنه يدخل تحت نوع القصة الأدبي.
وللفنانة التشكيلية فاديا بدران قصيدة تقول فيها:
” كنّا أبيَضَينِ على الشّاطئ، أقدامنا في الرّملِ وأجنحتنا السّماء..
لماذا يدركُنا الموجُ وتنتابنا الغواية؟
وكيف يتنازعُنا الله والرّغبة، في آنٍ معًا…”.
تمرّد وقلق
تضمن الكتاب قصيدة “تمرد” لغادة إبراهيم، وقصائد لكل من هدى ميقاتي، هالة نهرا، هدى نعماني، إنعام فقيه، عناية جابر، جميلة عبد الرضا و”قلق امرأة ” لعناية زغيب.
بدورها تتمرد جميلة حسين على سلطة الرجل بقولها في “نداء امرأة”:
” كفاكَ اعتباري ضلعك المفقود
أو نفرًا في جيش حريمك،
لن أكون ملحقة بك
لن أكون مضافًا إليه
ولا الضمير المتصل،
لن ألفّ دورات سبع حول فراشكَ
أنا المتمرّدة على الوأد، على الرّجم، على سجن النساء…”.
ونشرت للشاعرة الموسيقية ليندا نصار قصيدتان بعنوان “ولدت بيننا كيمياء”، و”هل أغلق ذاكرة الباب علي”، وللشاعرة مهى بيرقدار الخال (أرملة رائد الحداثة الشعرية العربية الشاعر يوسف الخال) عدد من اللوحات الشعرية القصيرة. كما تضمن الديوان قصائد لكل من الشاعرات: مهى خيربك ناصر، مريم خريباني، ماري قصيفي، مي الأيوبي، ميرا صيداوي، ندى حطيط، نادين طربيه، نسرين كمال، نور سلمان، رنيم ضاهر، ريتا باروتا، صباح زوين، سناء البنا، سوزان شكرون، سوزان تلحوق، فيوليت أبو الجلد، إيفون الضيعة، زهرة مروة وزينب حمود.

* “العالم في عيوننا” أنطولوجيا نسائية لبنانية شعرية، ترجمة كورنيليا تسيرات وسرجون كرم، صدر عن “شاكر ميديا” في ألمانيا.
*ضفة ثانية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة