من كتب رواية دون كيخوته .. ثربانتس ام الجيلي؟

عودة الى كتاب لم يأفل مع العصور

شكيب كاظم

ذكرت في دراستي الموسومة (دون كيخوته: هل كتبها ثربانتس ام العربي الاندلسي سيدي حامد بن الجيلي؟(1) ان ثربانتس لم يكتب الرواية كلها، بل كتب القسم الاول منها، في حين كان القسم الثاني من حصة العربي الاندلسي سيدي حامد بن الجيلي، في حين ينسب الدكتور عبد الرحمن بدوي مترجم الرواية عن الاسبانية الى الراهب السفاح، الذي آذى المسلمين الاندلسيين كثيرا واجبرهم على ترك دينهم، لا بل ان الكاتب الارجنتيني الرائع البرتومانغويل في كتابه الممتع الجميل (يوميات القراءة. تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة) والذي نشرته دار المدى بطبعته الاولى عام 2008، وترجمه العراقي المغترب عباس المفرجي، يكاد يشكك بوجود هذه الشخصية، فيرى انه زار بيت سرفانتس في بلد الوليد، كل اركان البيت ومحتوياته تبرز عالم دون كيخوته، لا عالم مبدعه، كاتبه سرفانتس الذي يبقى غير حقيقي.
فضلا عن كثرة الاخطاء، وفشو السهو والوهم في ثنيات الكتاب، مما يؤكد ان هناك اكثر من شخص تعاور على كتابته والاضافة اليه، فضلا عن اختلافات كبيرة وكثيرة حتى في الافكار والتوجهات بين قسمي الرواية، مما بسطته في بحثي المنشور ذاك، لا بل اني تطرفت وقلت ان كاتبها هو السيد حامد بن الجيلي، وقد نسبها الى ثربانتس ربما خوفا او لقاء مال، او اي سبب من اسباب الحياة شديدة القسوة والوطء على اصحاب العقول والضمائر، وفي التاريخ هناك الكثير ممن نسبوا كتبهم للمشهورين والاغنياء، وهل نسينا ان الروائي الروسي الشهير ثيودور ديستويفسكي، كان يكتب كثيرا ويسهب في الكتابة كي يسدد الدَين الذي عليه، بعد ان تعاقد مع صاحب المطبعة الذي يتولى نشر رواياته، من هنا جاء الحجم الكبير لتلك الروايات.

شغف ومتعة في القراءة
ولان ما ذكرته في دراستي تلك يقع في ضمن الرأي او النظرية، التي تحتاج الى برهان دامغ مؤكد كي تصل الى مستوى الحقيقة العلمية الراسخة، فقد وضعت في وكدي وهمتي متابعة الامر ما امكن الى ذلك سبيلا، والبحث عنه مادمت حيا. ولهذا قرأت واستقرأت بمتعة وشغف، واكثر من قراءة واحدة، الكتاب الذي امضى العلامة العراقي والباحث الموسوعي الاستاذ الدكتور كامل مصطفى الشيبي مئة يوم من عمره في كتابته الموسوم بـ(اصداء وملامح عربية واسلامية في رواية لثربانتس) الصادر في ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة، وهي سلسلة ثقافية شهرية تصدر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وتحمل الرقم (470) لسنة 2002.
الدكتور كامل مصطفى الشيبي، الذي رحل عام 2006، ولم يستوقف موته احدا من زملائه او طلبته، ويكفيه فخرا انه كاتب للكتاب الذي زادت صفحاته على الست مئة، وهو في الاصل رسالته للماجستير من جامعة الاسكندرية وباشراف العلامة الفيلسوف علي سامي النشار، والموسوم بـ(الصلة بين التصوف والتشيع) فضلا على اهتمامه بالمتصوف المصلوب الحسين بن منصور الحلاج، وتحقيقه لديوانه (الطواسين) هذا الموسوعي الذي كان ينشر دراساته القيمة في الصفحة الثقافية لجريدة (العراق) ايام كان يحررها طيب الذكر والسيرة الاستاذ احمد شبيب (رحمه الله) في الثمانينيات والتسعينيات الماضيات.
رأيت الدكتور الشيبي يحوم حول الموضوع، ولايكاد يسبره، وظلت بينه وبين الوصول الى حقائق الاشياء قشرة واهية تكاد تشبه القطمير شفافية ورقة، لكنه لم يستطع اختراق هذا الحجاب الرقيق، الذي يشبه بيت العنكبوت، هو الاستاذ اللوذعي والباحث المدجج بالعلم والمعرفة، لكنه في نهاية البحث يقفز في الهواء ليقرر كما قرر من قبله العلامة صفاء خلوصي ان شكسبير ما هو الا تحريف للشيخ زبير، ليقرر الشيبي ان ثربانتس، عربي اندلسي وان اسمه عانى تحريفا، وان ثربانتس ما هو الا ثروان او سروان واللفظان متقاربان في النطق ولعله من العرب القدامى، او من جد نزل الاندلس وَبُعد العهد بينه وبين ميكائيل صاحبنا الروائي (…) ومن يدري فلعل (…) عوامل غيرت من ثروان الى ثربانتس، ومن سروان الى سرفانتس، وايا ما كان الامر فان هذه نقطة تغري بالتأمل وتبعث على الرضا وتومض الى شعبة من الطريق قد تؤدي الى الجادة..ص17

رواية دون كيخوته أنموذج
عال للعمل الروائي المتقن
اولا: قلت ان العلامة الدكتور كامل مصطفى الشيبي يحوم حوّل الحقيقة ولا يكاد يكسر القشرة الواهية التي تحيطها يقول: (ان رواية دون كيخوته أنموذج عال للعمل الروائي المتقن، في براعة السرد والتسلسل والتشويق ومن الصعب على القارئ ان يتركها قبل ان يكمل قراءتها. والرواية، بناء فلسفي جدلي يدور النقاش فيه بين الانسان الخيالي المثالي الذي يصر على اوهامه ويسوغها بشتى السبل، وبين الواقع واضطرار الانسان التقليدي العملي الى تقبله والتضحية بالمثل والقيم التي تلقاها عن آبائه وقرأها في الكتب لضمان حياة آمنة مطمئنة مستقرة بما لها وما عليها. وهنا مقام لمقال: اذ لاحظنا في القسم الثاني من رواية دون كيخوته ان الجانب الخيالي الفني فيه اقل من القسم الاول، وان المادة التأريخية والسيرة الذاتية واضحة فيه وتكاد تطغى على سياق الاحداث، ولاحظنا ايضا ان كثيرا من الاحداث تستمد تسلسلها من شهرة القسم الاول واحترام الناس على طبقاتهم لدون كيخوته، بوصف الرواية التي يقوم ببطولتها احداثا تأريخية جارية ومستمرة، وكل هذا يعني ان القسم الثاني من هذه الرواية – وان كان من الطبيعي اعتماده على القسم الاول – يأتي من الناحية الفنية الادبية بعد القسم الاول، وانه على افتراض ان القسمين روايتان منفصلتان لا مجال للجدال في تفوق القسم الاول على الثاني وان كان التطويل فيه واضحا جدا) ص23. ص25
وهذا ما يعزز ما ذهبت اليه من ان القسم الثاني من الرواية لم يكتبه ثربانتس بل سيدي حامد بن الجيلي، فلو كانت لمؤلف واحد، لما ظهرت هذه الفروقات، فالاسلوب هو مرآة صاحبه او صاحبته، لذا جاء القسم الثاني اقل فنا من الاول كما يقول الشيبي، كما ان القسمين روايتان منفصلتان، هكذا يفترض الشيبي فلا مجال للجدال في تفوق القسم الاول على الثاني، ولِمَ نفترض ذلك؟ والدلائل تعزز القناعات من ان الرواية بقسميها لا تعودان لكاتب واحد، والا ما تفوق قسم على قسم، لو كانا صدرا عن قلم واحد وقريحة واحدة، لكنها الاساليب الكتابية المختلفة التي اسبغها الله على الكتاب ليتمايزوا فيما بينهم.
اثنتان وثلاثين كلمة عربية في الرواية
ثانيا: تحت عنوان (كلمات عربية في رواية: دون كيخوته) يحصي الاستاذ الدكتور كامل مصطفى الشيبي اثنتين وثلاثين كلمة عربية في الرواية، اي كلمات دخلت اللغة الاسبانية، لكنها ذات اصول عربية ومنها: Rabil اي الربابة العربية، وAlcuza وهي الكوز اناء لشرب الماء، وAlferes اي الفارس، ولفظ الجلالة والله، وتبارك الله العظيم، وAlmuhaza اي المخدة، وAlfaqui اي الفقيه، وتأتي الاستنتاجات الذكية التي اوردها الباحث الموسوعي الشيبي لتعزز ما ذهبت اليه في دراستي آنفة الذكر من ان القسم الثاني من الرواية كتبه الاندلسي العربي سيدي حامد بن الجيلي، ولم يكتبه ثربانتس، الذي اكتفى بالقسم الاول، او انه كتبه واضافه الى القسم الاول مستغلا موت ثربانتس عام 1616.
قال الدكتور الشيبي (والكلمات من 19 -26 من ايراد ثربانتس نفسه بوصفه فقيها في ضبط الكلمات العربية التي دخلت الاسبانية (!) وانها تنقسم الى ما اولها اداة التعريف (الـ) والى ما نهايتها ياء النسبة (..) وهذا [في حد ذاته؟ هكذا] دليل على ان المؤلف كان يألف العربية بنفسه وبيئته فوق انه استزاد منها ايام اسره في الجزائر، او سنواتها الخمس على الصحيح) ص40.ص41

المرابطون
ولدى عودتي الى هذه الكلمات ذوات الاصول العربية، لانها تحمل (الـ) التعريف الخاصة بالعرب وياء النسب او النسبة في آخرها مثل: العراقي. السوري. وهكذا، فوجدتها كلها في القسم الثاني من الرواية، التي لا تعود الى ثربانتس بل الى الاندلسي العربي المسلم سيدي حامد بن الجيلي، ولا ادري لماذا اقتصر الشيبي في توصلاته على الكلمات من 19 -26، بل كان يجب اضافة الكلمات 13 – الفارس و 14 – Elches العلوج و15 – Tagarinos اي الثغريون، وقد شرحها ثربانتس نفسه في المتن- كما يقول الشيبي – فذكر انها تطلق على مسلمي ارغون والثغر بمعنى موضع الحدود بين بلد وبلد آخر، ومثلها الرُبَط – اي حراسات الحدود، ومنها جاءت تسمية (المرابطون) الذين حكموا عقودا في شمالي افريقيا العربي في تلك الايام، وارى ان ثربانتس لم يعرفها ولم يشرحها، مما يؤكد ما ذهبت اليه من عروبة القسم الثاني من (دون كيخوته).
ثالثا: قال الدكتور الشيبي: (ومن المظاهر المشوقة في رواية دون كيخوته الاشارة الى الشعر القشتالي (الاسباني القديم) الذي كانت منه رباعيات وخماسيات تسمى العشريات، وكان من فنونه قصائد في المديح يبدأ كل بيت منها بحرف من اسم الممدوح (القسم الثاني/ ص232) فاذا عدنا الى العرب في المشرق والمغرب وجدنا الرباعيات امرا معروفا ومشهورا وكذلك الخماسيات والسداسيات) ص73
فأقول: أيسمح لي القارئ ان اقول، الا يدل هذا على ان كاتبها، اي كاتب القسم الثاني منها هو الجيلي سيدي حامد؟!!
رابعا: قال العلامة الشيبي (ووردت في الرواية اشارة تذكرنا بتقليد قديم في دنيا الشعر العربي وذلك عند الالمام بلويس تنسيلو (…) الذي تاب عن شعر الغزل [الذي قاله] في شبابه، وكتب قصيدة شهيرة يكفر بها عن ذنوبه) (2/10 والهامش) ص80
اقول: ذلك ان ذوي المكانة العليا في المجتمع الاسلامي، في السلطان او الزعامة الدينية كانوا يتباعدون عن قول الشعر (…) ومن هنا انتهى الينا قول الشافعي (محمد بن ادريس (…) بن شافع القرشي الامام 150 – 214 هـ
ولولا الشعر بالعلماء يُزري – لكنت اليوم اشعر من لبيد
ومن ذلك ان الرشيد لما عَلِمَ ان المأمون يقول الشعر، قال له يثبط عزيمته: (يا بُنَي، ما انت والشعر [وانما هو] ارفع حالات الدنيّ واقل حالات السري، فدأب من قال الشعر منهم في صباه وشبابه على تركه في كهولته وشيخوخته، كما فعل الشيخ محمد رضا الشبيبي وقد عبر عن هذا الموقف الشاعر العراقي الفقيه المجاهد محمد سعيد الحبوبي واذا كان الادباء الاسبان والعرب التقوا في هذه الخصيصة فان الفضل للسابق كما يقضي المنطق) ص80 – ص83
اقول: وقد احالنا الباحث الشيبي الى القسم الثاني، الصفحة العاشرة منه والهامش. أأستطيع ان اعزز بهذه الفقرة، رصيدي من ان هذا القسم الثاني من الرواية يعود للجيلي؟!!
خامسا: قال الشيبي: (واستطرد ثربانتس بعد ذلك الى سرد الظروف الاليمة التي احاطت بالعرب المسلمين واضطرتهم الى مغادرة بلادهم بناء على المراسيم الملكية التي صدرت في سنتي 1609 و1610/م – 1018 – 1019/ هـ ومن الغريب انهم كانوا يستطيعون ان يحيوا في امان وحرية في المانية وفرنسة، علاوة على المغرب، ولكن الرجال خاصة كانوا يعودون الى اوطانهم بوصفهم غرباء اوروبيين في المواسم الدينية الاسبانية، وذكر ريكوته، المنفي من بلاده لانه مسلم، ان زوجته وابنته فضلتا الذهاب الى المغرب على الذهاب الى فرنسة، والمثير للاعجاب ان ثربانتس عرض هذه القضية الانسانية عرضا مقبولا لدى ابناء جنسه في ذلك الوقت العصيب، بصبه على لسان ريكوته المنفي في صورة اعتراف منه بالخطأ وقوله: والخلاصة اننا عوقبنا بالنفي جزاء وفاقا، وهي عقوبة بدت للبعض سارة خفيفة، لكنها بدت لنا نحن اقسى عقوبة، وفي كل موضع نكون فيه نتحسر على اسبانية ففيها ولدنا وهي وطننا الطبيعي (..) ثم ان رغبتنا في العودة الى هذه البلاد، كانت من القوة بحيث ان اولئك الذين يعرفون مثلي لغة البلاد (…) يتركون هناك زوجاتهم واولادهم ويعودون الى هنا، بسبب حبهم الشديد للاندلس (…) اعرف بالتجربة صدق ما يقال من انه: لاشيء اجمل من حب الوطن) ص89. ص90
ويظل الشيبي يحيل الى القسم الثاني من الرواية، لكنه لم يلتقط حتى الان رأس الخيط الذي يدله على السر، سر هذا التعاطف مع المسلمين الاندلسيين المنفيين عن اوطانهم، بعد ان اديلت دولتهم، وظلوا يتخفون كي يكحلوا العيون بمرأى البلاد التي ولدوا فيها ونشأوا، فيتركون الزوجة والاولاد في بلاد ينعمون فيها بالحرية والهناء، لكن هو الوطن يلح عليهم كي يعودوا، هذه الافكار والمعاناة لن تصدر عن ثربانتس، لانه لم ينف ولم ينف قومه، بل صدرت عن سيدي حامد بن الجيلي الاندلسي المسلم الذي وقع على رأسه ظلم لا يحتمل، تغيير عقيدته ودينه او القتل، حتى اذا اخفى عقيدته، وضُبِطَ متلبسا باداء بعض الطقوس نفي الى خارج الاندلس، لا بل في النهاية نُفوا جميعا خارجها بشكل مأساوي لا يصدق يشير الى ظلم الانسان لاخيه الانسان، هذه المعاناة وتصويرها على هذا الشكل البليغ ما صدرت عن ثربانتس بل هي معاناة الجيلي وقومه.

(عقلاء المجانين) لابي القاسم النيسابوري
سادسا: قال العلامة المرحوم الدكتور كامل مصطفى الشيبي: (وفي ختام هذه الاوراق، وبعد الابتهال اليه – سبحانه – ان يعصمنا من الزلل والشطط والغلو وغلبة الهوى، يسعدنا التلويح الى ان هذه المقدمات التي سقناها بين يدي البحث الحاضر تشجع الظن بانه، اذا كان ثربانتس قد اشار الى كتاب عربي اخذ عنه روايته، كما ضمنها وقائع صحيحة في فصولها المختلفة، فربما كان هذا الامر صحيحا على سبيل الواقعية لا الروائية، من هنا نستطيع ان نفترض، بعد ملاحظتنا الكم الكثير من المادة العربية والاسلامية في الرواية الحاضرة، انه اقتبس بعض تكوينات دون كيخوته من (عقلاء المجانين) لابي القاسم النيسابوري، الحسن بن محمد بن حبيب، ت 406 هـ/ 1015م) وفي فلسفتهم من نحو الباب الرابع والاربعين من (الفتوحات المكية) لابن عربي (محمد بن علي الطائي الاندلسي ت 638 هـ/ 1240م فيلسوف وحدة الوجود في التراث العربي الاسلامي، وعندنا ان التشمر للبحث في هذا الموضوع يستحق الجهد الذي يبذل في سبيله، وقد بدأنا فعلا [الاصح حقا] ص106 – ص107
أقول: لقد اقترب الدكتور الشيبي في هذا النص اقترب من كبد الحقيقة، وهي اشارة ثربانتس الى كتاب عربي اخذ روايته عنه، لا خيالا او سردا روائيا، بل حقيقة واقعة دامغة، من هنا جاء الكم الكبير والكثير من المصطلحات الاسلامية التي لا يفقه ثربانتس فيها شيئا، ولقد ذكرنا آنفا تعاطفه مع المنفيين المسلمين من ديارهم التي عاشوا فيها قرونا، فالذي لم يعان الغربة والاغتراب والنفي عن الاوطان، لا يستطيع تصوير مشاعر المنفيين، مهما اوتي الحذاقة والفهم وسعة الخيال، وها هو كذلك يورد لنا الكثير من الفتاوى الاسلامية مما يؤكد اسلام الرجل وعروبته اذ ما شأن ثربانتس بهما؟
كان بودي لو قطع الشيبي الشك باليقين وتخلص من هذه الـ(ربما) فالاستقراء العلمي لهذا الموضوع يؤكد تعاور اكثر من شخص على كتابة هذا النص الروائي، ثربانتس، الراهب السفاح، سيدي حامد بن الجيلي وهو ما يسرده ثربانتس نفسه في كيفية عثوره على النص العربي منها، لكن الشيبي رحمه الله، يعد ذلك وجها من وجوه التفنن، واراه وجها من وجوه الحقيقة لا بل الحقيقة ذاتها وليس وجها منها اذ يقول: (كنت ذات يوم في درب القناة في طليطلة فشاهدت صبيا اتى تاجر اقمشة حريرية ليبيعه كراسات قديمة وانا شديد الولع بالقراءة .. فدفعني هذا الميل الطبيعي الى تناول احدى الكراسات، فوجدتها مكتوبة بحروف عربية ولما كنت لا اعرف (لا استطيع) قراءتها وان استطعت تمييز ما هي، ففكرت فيما اذ كنت استطيع العثور على عربي متنصر، يمكن ان يقرأها لي (…) واخيرا ساق لي القدر مترجما (…) فقام هذا العربي المتنصر يترجم من العربية الى الاسبانية قائلا: ان العنوان معناه (نصه) هذا: تأريخ دون كيخوته دي لا منتشا، تأليف سيدي حامد بن الايل المؤرخ العربي (…) وسرعان ما ابتعدت ومعي العربي المتنصر واقتدته الى رواق الكاتدرائية ودعوته الى ان يترجم هذه الكراسات كلها الى الاسبانية، او في الاقل ما يتعلق فيها بدون كيخوته (…) لكن لهفتي (…) وحرصي جعلتاني اقتاد هذا العربي المتنصر الى بيتي فاتم ترجمة هذا التأريخ كله الذي اوردناه هنا واستغرق في الترجمة ستة اسابيع او يزيد قليلا) ص86.ص87 من الرواية وص102. ص103 من كتاب الشيبي موضوع بحثنا هذا، ويعلق الشيبي على هذا المقبوس ولعله يعني مدة تأليف الرواية او تبييضها في الاقل.

سرفانتس
وفي هذا الصدد يذكر الكاتب الارجنتيني البرتو مانغويل في كتابه القيم والمهم (يوميات القراءة. تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة) الذي نشرته دار المدى عام 2008 وترجمه المترجم العراقي المغترب عباس المفرجي، رأيا مهما مفاده (صدفة [الاصح: مصادفة] عرضت عليه رزمة اوراق مربوطة لشرائها، ولانه قارئ نهم يقرأ حتى مِزَقَ الاوراق الملقاة في الطريق فانه يتصفح هذه الرزمة فيرى انها مكتوبة بالعربية، وبدافع الفضول لما تحويه هذه الصفحات فانه يذهب للبحث عمن يترجمها له اكتشف ان المخطوطة ليست الا تسجيلا لوقائع مغامرات دون كيخوته مكتوبة بقلم المؤرخ العربي سيدي حامد بن جيلي – والذي اتضح انه الى جانب سرفانتس بين المؤلفين الذين يضمهم الجزء الخاص بالفرسان في مكتبتنا وتحت اسم سرفانتس ايضا.
منذ تلك اللحظة، نابض حق التاليف اصبح دوارا: الرواية التي قرأنا يُزْعَمْ انها مترجمة من العربية ولم يعد سرفانتس هو الاب، لكنه مجرد عراب، في الجزء الثاني من دون كيخوته كانت الشخصيات قد قرأت الجزء الاول، فصححت ونقحت من اخطائها الواقعية (…) عند هذه النقطة يتساءل القارئ مَنْ اخترع مَنْ؟
معظم الكتاب لهم وجود حقيقي، ليس الامر كذلك مع سرفانتس فهو في ذاكرتي شخصية من دون كيخوته اكثر منه رجل حقيقي (…) سرفانتس يبدو لي انه ابتدع من خلال كتابه (…) زرت بيت سرفانتس في بلد الوليد (….) الحديقة، حجرة الدرس، غرفة النوم (…) كل هذا يبدع عالم دون كيخوته اكثر مما يبرز عالم مبدعه (…) يبقى سرفانتس غير حقيقي) ص155. ص157
نعم. يبقى سرفانتس غير حقيقي وجزءا من وهم والدنيا مملوءة بالشكوك والاوهام وسيظل الامر محتاجا الى مدارسة ومناقشة وطول بحث.

(1) حاشية: تراجع صفحة 103 من كتابي (التماعات ورؤى. مثابات في الادب والفكر) الصادر عن دار النايا ودار محاكاة – دمشق – سورية سنة 2011

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة