حبيب سروري
«من لم يحضر يوما مهرجانَ المسرح الدولي في أفينيون، لا يمكنه أن يتخيّله!»، قالت شيخةٌ مسنّة في إحدى ندوات «معامل الفكر» التي تستمرّ طوال أسابيع المهرجانِ الثلاثة، كلَّ صباح.
مهرجانُ أفينيون حدثٌ سنوي واحدٌ. ليس فقط بفضل عددِ المسرحيات التي تُعرض فيه: أكثر من 1400 مسرحية في هذا العام (عندما بدأتُ الانتظام في حضوره السنوي، قبل 15 عاما، كانت 950 مسرحية)، وعدد مواز مدهش من ندوات «معامل الفكر» اليومية، ومن النشاطات الثقافية والفنية والفكرية عموما، في مدينةٍ تاريخية طوباوية أشبه بحلم، لكن، وعلى نحو خاص، بفضل نوعيته الفريدة الوحيدة، كصوتٍ سنويٍّ مهيبٍ يقاوم، بأدوات الفن والثقافة والفكر والتربية، خرابَ هذا العالَم الذي صار شعاره اليوم: «لا صوت يعلو فوق صوت قوى المال وديكتاتوريتها».
من لم يلاحظ أن عالمَنا اليوم صار «سوبر ماركت» بحجم كوكبنا الأزرق. آلهتُه: البورصاتُ والأسواق المالية التي ابتلعت الأنظمةَ السياسية وحوّلتها إلى دمى تقودها كما تشاء.
مهرجان أفينيون، الذي أسّسه في البدء فنّانون كبار، يساريون وشيوعيون أساسا، ظلّ وفيا لهذه الروح المقاومةِ لاحتكار الثقافة من قبل الارستقراطية (كانت فكرته الأولى، قبل 72 سنة، تحويل المسرح من فنٍّ للنخبة الباريسية، إلى فنٍّ شعبيٍّ للجميع، ينطلق بعيدا عن العاصمة).
مهرجانٌ يفتح أحضانه لكل فنون المسرح ولأهم عروضه الدولية. يحافظ على نفس الروح الأصيلة الأولى التي تبحث عما سَمّاها كِتاب مهرجان هذا العام: «الطاقة الإيجابية» التي «تعْطف الخطّ البياني للزمن، وترفض توريث الشقاء للأجيال القادمة».
تماما مثل طاقة مراكز «الثقوب السوداء» في الفيزياء: مصدر قوة مجهولة قادرة على إيقاف الزمن! أي: العين التي تراها من منظور كليّ هادئ مستقّل.
كذلك كان مهرجان عام 2018: لا توجد قضية صغيرة أو كبيرة من قضايا عصرنا لم تقف أمامها مسرحية من مسارح المهرجان بروح نقدية حرّة، وبثقب نظرِ عين الإعصار، وبطاقةٍ إيجابية تبثّ في المشاهد أسئلة وجدلا ورغبات وإرادة.
اللافت: بعض المسرحيات أدّاها سجناء تمّ تأهيلهم خلال سنوات، وأثاروا إعجاب المهرجان بشدّة. مثل مسرحية «أحمد يعود» التي كتبها الفيلسوف الماركسي آلان باديو (أحد نجوم المهرجان. يداوم على حضوره سنويا. وكان ضيف إحدى ندوات «معامل الفكر»).
أو تراجيدية «أنتيجون» لسوفوكل (القرن الخامس قبل الميلاد) التي تدور حول موضوعِ ضرورة عدم الانصياع للقانون غير الإنساني.
كما يعرف الجميع: ترفض انتيجون قرار الملك بعدم دفن جسد أخيها. «ليظلّ الإنسان إنسانا، مهما كانت فعائله».
موضوع ثلاثية بي: كيف تحيا في عالم إلههُ المال؟
كانت روح «الطاقة الإيجابية» حاضرة في كل معامل الفكر لهذا العام. لا سيّما في آخرها التي استضافت البروفيسور الفيلسوف ميشيل سير، عضو الأكاديمية الفرنسية، المتخصص بتاريخ العلوم، لِنقاش كتابِه (الذي كان موضوع مقال سابق لي في «ضفّة ثالثة»): «هل الحياة كانت سابقا أفضل من الآن؟».
بالطبع، لم يقل الفيلسوف إننا نحيا في عالمٍ جيّد، ولم ينفِ مخاطر القادم لا سيّما البيئية، لكنه برهن في ندوته أن البشرية في كل المجالات: الطب، انخفاض العنف، النضال ضد الطغيان… تعيش زمنا أفضل بكثير من كل ما عاشته في كل تاريخها.
وليس لِمهرجان أفينيون، جذوة الطاقات الإيجابية، من هدف غير مواصلة المسيرة.