الجفاف الأشد فتكاً

عندما يتم التطرق لمفردة “الجفاف” غالباً ما يتراود للذهن؛ أمر النقص الشديد أو انعدام وجود المياه ومصادرها، وهي من دون شك محنة قاسية واجهها البشر على مر العصور، كما انها اليوم تتربص بسكان بلاد ما بين النهرين. لكن الجفاف الذي نسلط الضوء عليه في مقالنا هذا، له علاقة بمياه من نوع آخر تعنى بها تضاريس اخرى تنحصر حدودها في ضمائر وعقول وسلوك البشر، وعندما تجف هذه المياه يفقد البشر أهم خصيصة أهدتهم إياها الأقدار، ألا وهي؛ آدميتهم..! من دون هذه الخصيصة تفقد الأشياء رونقها في حياة المجتمعات والدول (جماعات وأفراد)، وقد جربت الشعوب والأمم مثل تلك المحطات المشينة في تاريخها القديم منه والحديث، ومن المؤلم ان نعيش اليوم كعراقيين مثل هذه المحنة العظيمة، بعد أن سحقتنا عمليات المسخ المبرمج والطويلة التي عشناها برفقة أبشع تجربة توليتارية عرفتها المنطقة، وأجهزت على ما تبقى لنا من قيم آدمية، الجماعات التي تلقفت مقاليد أمور الغنيمة الأزلية بعد الفتح الديمقراطي المبين. اننا نواجه اليوم ما يمكن أن نطلق عليه ومن دون تردد بـ (الجفاف الأشد فتكاً) حيث يندر العثور على من يتعامل مع الآخر وفقاً لمعايير وقيم أصبحت في غير القليل من البلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري، من استحقاق المنتسبين لعالم الحيوان، حيث المراكز الصحية المعنية بالقطط والكلاب وبقية شركائنا على هذا الكوكب الذي حولته الثورات العلمية والقيمية (الآدمية) الى قرية). ولن نكون بعيدين عن الواقع، عندما نحسد تلك الحيوانات على ما حصلت عليه من حقوق عادلة ومشروعة، بينما يتعرض الكثير منا فيما يسمى بـ (المستشفيات والمطبات والمراكز الصحية) الى إذلال وإهانات تصل أحياناً لحد الإجرام، عندما يجري تحويل من لاذ بها، الى ما يشبه فأر الاختبار، عبر ضخه بكل أنواع البضائع الدوائية والتجارب قبل ان يصلوا الى تشخيص حالته، والتي غالبا ما يعجزون عن ذلك بسبب من عدتهم العلمية والعملية والقيمية البائسة والمقرونة بكل أورام الغطرسة والغرور الأجوف الذي يميز غير القليل من العاملين بهذا الحقل الحيوي. كما ان الأمر لا يختلف في الحقول الاخرى، حيث تعج بهذه المسوخ البشرية، المسكونة بالشراهة المفرطة وانعدام الضمير، وهذا ما نشاهده ونواجهه يومياً؛ في المحاكم والإدارات الحكومية والأهلية ومخافر الشرطة وغير ذلك من حطام المؤسسات، وفي شتى تجليات الاحتكاك ببعضنا البعض الآخر، والأشد مرارة ان الكثير منا لا يشعر بكل هذا الحضيض الذي انحدرنا اليه، وغير القليل منهم لا يكف عن التشبث بتراتيله وتعاويذه المنتهية الصلاحية منذ زمن بعيد، بوصفها حبل خلاص فردي له من هذا العالم الفاني..!
كنا بأمس الحاجة الى مشاريع تعيد بناء جسور المحبة والثقة والاطمئنان بين سكان هذا الوطن القديم من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، لكن الأقدار بطرفيها (الموضوعي والذاتي) أهدتنا حيتان الضد النوعي لها؛ أي قوافل التشرذم السياسي والاجتماعي على أساس “الهويات القاتلة” والتي “جملت الغركان غطة” لتتمدد مناخات وقيم الشراهة والفرهدة والضحالة الى مستويات لم تعرف من قبل، حتى وصل الأمر بقطاعات واسعة من هذا المجتمع لأن تعد النشاطات التي ينهض بها البعض لإعادة الروح لتلك المسارب الآدمية (الأعمال الطوعية وخدمة الشأن العام و..) بوصفها حماقة او أعمال بطرانة وذلك أضعف الإيمان…!
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة