(جلالة الوقت).. والتعبير عن كوامن الوجد

علوان السلمان

ان تأطيرا تاريخيا لتطور اشكال النص الشعري ابتداء من عموده وانتهاء بقصيدة النثر المقطعية(كخاصية جمالية لا كمية) المنتجة لنص حداثوي مكتنز بـ(فضاء من الاخيلة والصور والانتقالات وتداعياتها) على حد تعبير ادونيس ..كونها الامتداد الطبيعي للتجربة الانسانية في ابعادها المرجعية والتكوينية المعززة لكونية النص الشعري الذي شهد عبر الامتداد التاريخي تغيرات على المستوى الفني والاسلوبي للتعبير عن روح العصر بلغة حسية تنطلق من الوعي..لذا فهي تفترض ارادة واعية للانتظام بوحدة عضوية وتركيب مضيء يمنحها القدرة على اثارة الصدمة الشعرية الخفية..كون الفن هو(الارادة في الاعراب عن الذات بطرق منتجة) كما يقول (ماكس جالوب) في معرض حديثه عن قصيدة النثر التي عرفها(اي. جالو) بأنها(قطعة نثر موجزة من غير اخلال..موحدة ومضغوطة كقطعة من بلور..)وسبب ميلها الى الايجاز كي لا تكون حدثا في الزمان وانما تبدو بريقا ذي اثر في متلقيها..هذا يعني ان الايجاز والكثافة الجملية صفتان اساسيتان في تشكيلها البنائي..
والمجموعة الشعرية(جلالة الوقت)بنصوصها التي توزعت بين النص والنص القصير والتي سجلت لحظاتها ذهنية شاعرها خضر حسن خلف وهي تدور في رحى الزمن ابتداء من العنوان الايقونة المثيرة لهاجس التأويل والمفتاح الاجرائي للتعامل مع النصوص في ابعادها الدلالية والرمزية التي تستدعي متلقيها الى المشهور من القول(الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك) تاكيدا على اهميته.. واسهم اتحاد الادباء والكتاب في البصرة في نشرها وانتشارها/2017..كونها تشتغل وفق تصميم دقيق ينم عن عمق نصي متجاوز للقوالب الجاهزة وخالق لعالمه المقطعي المؤطر بوحدة موضوعية مع انفتاحه على فضاءات ابداعية رفدته بطاقات دلالية وشعورية وفكرية جعلته متحركا نحو آفاق ورؤى حداثية..
لا تخشي شحوبي
فما زلت أميز مكاني من الطيف
ولم تنفرط بعد حبات ذاكرتي
تمرين امام حاضنة خشوعي/وتشكين تاريخ خشوعي
وسوى اصابعك الرقيقة/لن تفلح العقاقير
سأشيع وحدتي/ولنتمحور معا تأملا وضوء
كيف لا تمهد الروح لعزلتها تحت الجلد
كيف لا تصغي لحيرتها خلف سطوة الوقت
وانا محض حلم متعثر/سأبدأ من فوضى القصائد
في الطرق الموحلة وانتِ معي
ولا أثر للضجيج سوى كلماتي/وغنجك المثير
نستشعر حشد القلق الخفي/في كل الاشياء /ص6
فالنص يعكس الاضطراب النفسي باتكائه على اساليب تصويرية ولغة تعبيرية بعيدة عن التقعر والتعقيد..فضلا عن ان الشاعر يوظف هواجسه عبر مشاهده التأملية التي تتسم والتجربة بالكشف عن المضامين الموحية عبر خيال محسوس كمحفز في عملية الخلق الشعري..الوسيلة التعبيرية والدلالة الاجتماعية التي يحققها المنتج(الشاعر) المتفرد بقدرته على الخلق ضمن اطار الوعي لتسجيل موقف ازاء حركة الكون..اذ انه يحاول ان(ينشيء من العالم المفروض عليه عالمه الذي يحلم به..)على حد تعبير بول ايلوار..من خلال الاشتغال على التقاط الجزئي والمحسوس بعمق معرفي يوظف الواقع الممزوج بالخيال جماليا ودلاليا فيخلق مشاهده المشحونة بقلق الذات والعزف على لحظات حركية الحواس وتناغماتها المنسابة مع ايحاء اللحظة الشعرية..وخلق دلالات ومناخات نفسية تسهم في توسيع القدرة التخييلية بالاتكاء على السرد الشعري في تشكيل مكوناته النصية عبر الاستغراق في الجزئيات..
لان يدي
أقصر من ان تصل الى الوردة
خلف سياج الحديقة
تمليت عنفوانها الملون
وكتبت تاريخ تواشج روحينا
بحروف من تألق
على جذع صفصافة خلفي
متذكرا السنوات التي ظللتنا
بالابيض والاسود
والحضور والغياب
والضحك والبكاء /ص39
فالشاعر يتخذ من الطبيعة ملاذا لخلق صوره الشعرية التي قامت على تقنيات فنية واسلوبية كالتكرار الذي اسبغ على النص نوعا من الايقاع المعبر عن صدى الذات المنتجة..والرمز الاستعاري الذي فيه تسمو التجربة وتتحول الصورة الى رؤيا تستمد نبضها من الذاكرة الذاتية والموضوعية بتوليفة تجمع ما بين الواقعي والتخييلي باسلوب جمالي قوامه اللحظة الفكرية التي تكشف عن حالة نفسية تتأمل وجودها القائم على المتضادات وتشكيلاتها في بناء عوالمه المشهدية بلغة تشكل وسيلة تبليغ وغاية في حد ذاتها والتي يعمل المنتج(الشاعر) على تفجير قدرتها التعبيرية فيقدم خطابا نصيا تتداخل فيه السردية ببنية درامية متنامية عبر حوار ذاتي والواقع..مع اعتماد الوحدة والكثافة والغنائية التي تتخذ من ضمير المتكلم وسيلة لها..مع تغيير زوايا الرؤية لاحتواء جوهر الاشياء..فضلا عن اتخاذه تقانة التذكر وقدرة الانشطار الذاتية لتحقيق الوظيفة الاستقرائية وتخطي المسافة الزمنية..
حبذا
لو تبخترت مثلي
عسكريا عنيدا
لا يطاله الانحناء
نسيت الذي
سيقوله:(البط للسمكة)
مثلما علمتني/فتعثرت ببعضي
قبل خطوات من العتبة
في اول يوم
أرى فيه صغارا تنشدون/للعلم /ص56
فالنص يتماهى والحس الانساني عبر صوره المشهدية التي تترجم عمق المشاعر والتركيز على المفارقة المتناغمة وبنائه المعبر عن لحظة التوهج التي تجنح الى الايجاز والتركيز وهي تتكىء على محمولات لفظية تكشف عن صور حسية(بصرية) تنطلق من الاطار الذاتي وتبلغ ذروتها معانقة التجربة الانسانية باعتماد الشاعر خطاب الصورة المستفزة للذاكرة بمخاطبتها الوجدان وفق معيار حداثي له التزاماته الموضوعية مع تركيز على الخصائص الحسية لابراز التكوين الجمالي..فضلا عن التعبير بالصورة بوصفها مشهدا بصريا مرئيا لتحقيق المتعة الجمالية المنبعثة من بين ثنايا النص الذي يستذكر الطفولة من خلال انشودة(يابط يابط/اسبح بالشط/قل للسمكة/اتت الشبكة/….) والجندية في شبابه..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا قابضة على اللحظة المتوهجة باشتغال لغوي تتساوق في مشاهده العناصر المعبرة عن الجمال وكوامن الوجد المستمدة من بنائها المتماسك وتكثيف عباراتها ومجازاتها والذاكرة التاريخية والبنية الدرامية المنبعثة من الرؤيا المحققة للصورة المقترنة بالتجربة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة