عبد علي حسن
يتوافر النص الروائي المعاصر على جملة من التقنيات الحديثة والحربة في استخدام ضمائر الروي فضلا عن خرقه للعديد من المحددات التي ارهقت الرواية التقليدية ، الأمر الذي وجد فيه المتلقي نفسه ازاء عالم روائي زاخر بالأفكار والتقنيات يمكن النص من تقديم رؤيته الفكرية والجمالية ، وازاء هذا الثراء والتنوع في تخليق العالم الروائي فإن وسائل التفاعل مع هذا النص هي الأخرى تتعدد وتتنوع وتخرج بقراءات متغايرة تضع النص في مجملها في منطقة الجدال المستمر عبر اثارة فضول المتلقي الذي يجد نفسه في نهاية الأمر قادرا على الاجابة على تساؤلات النص الروائي عبر فعالية التأويل .
و لاتدعي هذه الدراسة لرواية (بيت السودان) للروائي العراقي محمد حياوي الصادرة عن دار الآداب / بيروت / ط اولى 2018 ، الإحاطة الشاملة بموجهات الروائية المعرفية والجمالية مع التأكيد على ان ليس هنالك دراسة او مقاربة لأي منجز ابداعي تدعي كلية الإحاطة ، بسبب من تعدد زوايا النظر وامكانية الإكتشاف للعديد من القضايا التي اتت عليها الرواية ، لذا — ووفق قراءتنا للرواية — وجدنا ان للجسد حضور طاغ شكل بؤرة تلتقي عنده وتفترق الأحداث والشخصيات ، ووفق الموجهات المعاصرة للبلاغة بعدها وسيلة افصاح وإبانة في تجاوزها للبلاغة التقليدية المقتصرة على الفعل اللغوي الى سواه من الاشياء المحيطة بالعالم الروائي ، فصار الحديث عن بلاغة الواقع/ بلاغة المكان/ بلاغة الجسد / بلاغة الخوف ….، وبترحيل هذا المفهوم من بلاغة اللغة باستخدام فنون القول البلاغي التقليدي فقد صار بالامكان الحديث عن بلاغة جديدة استدعتها الأسئلة التي يطرحها المنجز الإبداعي المتولدة مما استجد من مداخل متعددة للواقع وفق آليات سردية حديثة مكنت تصدر هذا الركن التجنيسي لان يحتل موقع الاهتمام والمركزية دون غيره ، وبذا فان بلاغة الجسد التي نعنيها هنا هي قدرة الجسد على الكشف وإبانة وبث خطابه الداخلي والخارجي ، المكشوف / المسكوت عنه ، ولتمتع الجسد بهيمنة مطلقة على مجريات الرواية سواء كان ببعده الايروسي القديم القائم على اللذة الحسية وتمثلها او الايروسي الجديد القائم على ابانة المشاعر والأحاسيس المسبقة او المرافقة للفعل الجنسي دون الاهتمام بهذا الفعل بعده هدفا نهائيا، فقد كانت الشخصيات النسوية تدخل الأحداث من خلال جسدها ، اقترانا بحضور المذكر (علي) — الذي احتل موقع الراوي كلي العلم — وعلاقته بتلك الشخصيات النسوية ، فقد كان يسرد جسد الأنثى بعين المذكر منذ الاستهلال الروائي ، ويمكن وضع الخطاطة التالية لتوضيح هذه العلاقة بين ( علي ) الشخصية المركزية بعدّه راوٍ كلي العلم والشخصيات النسوية في الرواية :
علي فتاة المقبرة / بظهرها المتخيّل المزدوج في مفتتح الرواية ونهايتها.
علي البنات السبع / اللواتي أشارت لهن فتاة المقبرة ووجودهن في ( الخسف).
علي ياقوت / الحضور الكامل لأنوثة الجسد وتاثيره الآيروسي .
علي رقية / اعجاب وهيام أدى الى الانتحار
. علي بنات بيت السودان / شمَّ ، نعيم ، مكبّلات بالتابوهات التي وضعتها ( ياقوت).
علي عفاف / علاقة غامضة متقاطعة .
علي نانسي المجندة الامريكية السمراء / جذب داخلي مضمر .
علي صبرية / بائعة الهوى ، عارضة لجسدها في بعده الآيروسي / اقتناص اللذة .
في حين حازت شخصية (عجيبة) العجوز على منزلة رفيعة لإتصافها بالطيبة ومساعدة الآخرين من ساكني بيت السودان ومريديه.
فكل هذه الشخصيات النسوية التي كان وجودها في الأحداث ودخولها العالم الروائي انما كان من خلال اجسادها التي كان يرويها علي بعينه الذكورية وفقا للوصف الذي اطلقه على تفسه والذي كشف عن شغفه بالنساء ( منذ طفولتي، اعتدت تتبع النساء في الطرقات والأزقة والأسواق ، شيء ما يجذبني اليهن في الحقيقة ، خفق عباءاتهن السود ، او البياض المهادن لكعوبهن الراكضة حين تنحسر العباءات عنها ……النص ص 11 )
حتى ان الأمكنة تستمد حضورها الوصفي الداخلي والخارجي من طبيعة حضور الجسد النسوي وبعده الآيروسي وبعده حاضنة للحدث ، وكما يلي :–
المقبرة—— عزلة متخيلة مثيرة .
بيت السودان —– مكان تعاطي المتعة البريئة.
البستان ——- حاضنة طبيعية بريئة للطبيعة الانسانية الطاهرة .
منطقة الآثار ——- حضور السلف والبعد التأريخي وامتداده في تكوين الشخصيات.
السطح / تواجد برج الطيور والايحاء بسمو الأرواح.
فندق ( الهناء ——( تعاطي الرذيلة والبغاء العابر .
وتتبدى بلاغة الجسد في الرواية منذ العتبة الأولى التي كونتها الأسطر الأربعة على نحو تم فيه رسم مشهدية شعرية أخاذة حاز فيه الجسد على تأثير تجاوز فيه البعد الحسي المثير للرغبة الجنسية الى تخليق متعة من نوع آخر بتمثل الجمال الداخلي للجسد النسوي ومايزخر به من معان موحية :–
)لو أصغيت جيدا ،فستسمع نقر الدفوف .
وإذا كان الليل رائقا والقمرمتواريا،
فسيكون في امكانك رؤية أعمدة النور تنبعث من الرماد
وترقص فوق الحطام رقصتها الأبدية ….. النص ص 5 . )
وما أعمدة النور هنا سوى اجساد بنات ) بيت السودان (هذا البيت الذي سيتمتع بسطوة عبر فاعلية ماتبثه الأجساد النسوية وعبر ماينجم من احداث تولدها تلك العلاقة الخفية بين ساكنيه حتى لاتملك الا ان تتمنى أن تكون أحد رواده لتتمتع بتلك الرقصة التي تنبعث منها الحياة ، هذا ما ارادت هذه العتبة من توصيله عبر التعبير المكثف والشعري لرسم هذه المشهدية لتكون مدخلا الى (بيت السودان ) وتهيئة ذهن المتلقي للتفاعل مع البعد الانساني المتجاوز اللذة الحسية المؤقتة ، لتضفي نوعا من التفاعل مع الجسد ومايفصح عنه من متعة جمالية ، ولعل ذلك مايشكل رؤية اولية ستنضج فيما بعد للعالم الذي خلقته الرواية .
وبتداخل مقصود ومتقن بين الواقعي والمتخيل تكرس الرواية رؤيتها الجمالية عبر سرد مكثف يرتفع بالمستوى اللغوي الى الشعرية النافذة والمتجاوزة سطح الحدث المتخيل وهو ماتمكنت منه الحوارية ذات البعد التداولي بين الفتاة السوداء المفترضة وبين )علي( الذي لم يكن في هذه الحوارية سوى متلق لجملة من التوصيات من قبل الفتاة لعل اهمها التمسك بأذيال المراة السمراء التي ستكون لاحقا سيدة بيت السودان واعني )ياقوت(، اذ سيكون هذا البيت مخاضة الحكايا التي ستكون عالم الرواية في تعالقها بين الواقعي والمتخيل المترشح عنه وجهة نظر لاتبتعد كثيرا عن مجريات الواقع العراقي منذ دخول القوات الأمريكية عام 2003 وحتى انهيار بيت السودان محترقا على يد سيد محسن وجماعته ، ولعل تخليق المعادل الموضوعي بين انهيار بيت السودان وانهيار البنية الاجتماسياسية للمجتمع العراقي يعد محاولة لإثارة فضول المتلقي لمعرفة ماجرى ويجري في هذا البيت ومجمل العلائق التي تربط بين ساكنية وكشف العلاقة بين )علي(والنسوة اللواتي دخلن حياته دون تخطيط مسبق ماعدا علاقته الغامضة بـ (ياقوت)التي لم تستجب له على صعيد الفعل الجنسي الذي كان ينشده لتظل رمزا لطهارة الجسد وبراءته ولتطرح بعفوية بالغة تمسكها بموقفها وعدم سماحها بأي فعل بذيء يسيء الى براءة (علي)وحمايته من أي محاولة من قبل فتيات البيت للايقاع به وممارسة الفعل الجنسي معه ، كما انها ( ياقوت) وبنفس القدر كانت تحرص على نظافة وبراءة فعل الرقص الذي كانت تؤديه هي وبقية بنات البيت ، وفي الوقت الذي تمكنت فيه (ياقوت)من توصيل خطاب جسدها المضمر لرواد البيت ( دكتور رياض ، زيدان الحوذي، سيد عباس ، والآخرين من طلاب المتعة في الطرب والرقص )فإن )علي) — الذي يعرف الجميع بأنه ربيب لياقوت وبأنه ليس ابنها — كان يشتعل رغبة في جسدها الذي تغزل به بالخفاء مع نفسه وعده من مثيرات رغبته الجنسية ، فيسرد جسدها بشغف فاضح (كانت امرأة ناضجة ذات ملامح دقيقة وعينين واسعتين بلون البن وشفتين ممتلئتين ورقبة طويلة ..كانت علاقتنا لاتشبه علاقة الإبن بأمه في الحقيقة ……النص ص (19 ويكشف عن رغبته تجاهها بشكل اوضح في النص الآتي )حتى عندما بلغت العشرين من العمر، فما زالت غير متحفظة امامي ، وتغير ملابسها وترتدي ثوب نومها تحت ناظري ، فألمح بطنها المخسوف وسرتها الغائرة وتكور عجيزتها الصغيرة…وشيئا فشيئا ، بدأت اللوعة تداعب خيالي وصرت اعجز عن كتمها……النص ص (23 الا ان ياقوت كانت تدرك ان هناك علاقة اسمى وأطهر من تلك التي يرغب بها علي ، (اما هي فكانت تعاملني مثل طفل ….النص ص 23 )وظل كلا الموقفين المتضادين لياقوت وعلي حتى نهاية النص على الرغم من الاستجابات الطفيفة التي لاتخل بمعادلة طهارة الجسد والعلاقة التي فرضتها ياقوت على )علي( وبقية رواد البيت ( فقد كان شرطها على الجميع ان لايدخل الدنس بيت السودان على الرغم من (انه يبيع المتعة عن طريق الرقص والغناء اللذين لطالما كانا متلازمين ، في خيالات الآخرين ، بالجسد …..النص ص23 ) ، في حين ظلت مشاعر علي منجذبة تماما الى ياقوت وحدها فقط دون الأخريات ، حتى عفاف التي كانت تربطه بها علاقة مميزة لمستواها التعليمي وقربها من افكاره ، فقد حاولت عفاف الإفصاح أكثر من مرة عن ولعها ب)Jعلي(وتوفر امكانية تحقيق فعل جنسي — تحقق مرة وفشل في مرات أخرى– ولم يلق استجابة تامة لأعتقاد عفاف بأن جسد علي مرهون لياقوت التي وجدت في تقارب علي وعفاف منطقة تعويضية تمكن علي من تحقيق رغبته العاطفية والجنسية خاصة في مدة اختفاء عفاف في بيت السودان بعد اختفاء ابيها وملاحقة رجال الأمن لها ، ويعد المشهد الذي رواه علي — في ليلة من الليالي يجمع فيه ياقوت وعلي وعفاف — غاية في الآيروسية التي افصح فيها الثلاثة عن الرغبة في استحصال اللذة عبر هذا التشارك الثلاثي الذي حصل برغبة واقتراح من عفاف وتأييد من علي (حسنا اليكما جسدي افعلا به ماتريدان ان كان الأمر يريحكما ، هل أنضو الثوب عني ؟ وراحت تنزع ثوبها الشفاف، فبان نهداها العاجيان ، اللذان طالما آسراني وراحت عفاف تنظر الى جمال جسدها غير مصدقة ، وانتابنا الجفول ، فاستدارت نحونا وقالت :– — مابالكما؟ هيا، ارتعا بجسدي الذي تتمنيان لن أوفر شيئا يريحكما على الإطلاق …… النص ص (104 الا انه لم يحصل شيء مما كان يدور في ذهن علي وعفاف وذلك لوقع مفاجاة استجابة ياقوت لمقترحهما ، ولكن ماحصل من رغبة عفاف وعلي لم يكن بالنسبة لياقوت الا لعب لطفلين ، بمعنى آخر إن قبول ياقوت لهذا الوضع التشاركي هو خارج مبدأ اللذة الآيروسية ، وبالنسبة لعفاف هو معرفتها بأن علي لايمكن له التفاعل الا من خلال جسد ياقوت ، ومن خلال هذا التشارك فإنها ستحقق رغبة مكبوتة او تعويضية من خلال الاستمتاع بجسد ياقوت ، ذلك أن فعلها السابق مع علي وهما على فراش واحد قد تم من جانب واحد (عفاف) على الرغم من استسلام علي لها وتنفيذ رغبتها وحصولها على اللذة من خلال فعلها الجسدي (الخارجي) واحتكاكه بجسد علي بعد اعتلائه من قبلها .