هادي فتح الله
نظراً إلى تداخل اختصاصات الهيئات الحاكمة في السعودية، فضلاً عن مركزية الدولة الشديدة، يُحكَم على مبادرات مثل «رؤية 2030» بالفشل.
وجّه مجلس الشورى السعودي، في تأنيب علني نادر في شباط/فبراير 2018، انتقادات إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية، لقيامها بتبديد الموارد الحكومية، وهي من المرات القليلة جداً التي يوجّه فيها مجلس الشورى المعيّن انتقادات علنية إلى مؤسسة حكومية سعودية.
وفي ذلك مؤشرٌ عن التباين بين ما تتطلع الدولة إلى تحقيقه، سيما «رؤية 2030»، أي الخطة الاقتصادية المحورية التي وضعها ولي العهد محمد بن سلمان، وبين الإمكانات والسلطة التي تتمتع بها هيكلية الحوكمة السعودية العاجزة، مثل وزارة الشؤون البلدية والقروية، لتنفيذ تلك التطلعات.
وعلى الرغم من أن «رؤية 2030» تنص على أن السلطات المناطقية والبلدية سوف تسهم بتخطيط برامج الرؤية ووضعها موضع التنفيذ، إلا أنها لا تشرح كيف سيتم ذلك، كما أنها تفتقر إلى خطة واضحة لإصلاح الهيكليات البيروقراطية وتحقيق لامركزية السلطة.
كان عجز المنظومة البيروقراطية الراهنة عن إيجاد حلول للمشكلات الإنمائية واضحاً لبعض الوقت، بدءاً من تطبيق الخطط الإدارية والتنموية الكبرى التي وضعتها الحكومة المركزية بموجب «رؤية 2030»، وصولاً إلى تأمين أبسط الخدمات مثل إدارة النفايات، والأمن الغذائي، والمياه.
إشارة في هذا السياق إلى أن أربعة أشخاص قضوا في الفيضانات في جدة، ثاني أكبر مدينة سعودية، في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 إنها مشكلة مستمرة منذ انطلاق موسم الحج في العام 2009، عندما أودت الفيضانات بحياة أكثر من 130 شخصاً، وألحقت أضراراً بقيمة مليارات الدولارات في البنى التحتية المحلية.
في ذلك الوقت، أعلنت الحكومة السعودية عن فتح تحقيق واسع في ملابسات ما حدث، وأطلقت مناقصات لمشاريع جديدة بهدف تجنُّب وقوع أضرار في المستقبل بسبب الفيضانات.
وقد تخطّى الديوان (مكتب الملك وولي العهد بالإضافة إلى جيش المستشارين)، السلطات المناطقية والمحلية، مكلِّفاً شركة أرامكو، «شركة النفط الوطنية السعودية التي يُعهَد إليها تنفيذ مجموعة واسعة من العقود الإنمائية، التي لا علاقة لها بالإنتاج النفطي»، الإشراف على التحسينات في البنى التحتية المحلية وإدارتها. وعلى الرغم من تنفيذ مشاريع جديدة، وصدور قرارات اتهامية بحق مجموعة من المسؤولين الحكوميين في المجالس البلدية، ومن رجال الأعمال المحليين في العام 2013 على خلفية سوء إدارتهم لملف الفيضانات، ظلّت جدة تشهد فيضانات كل سنة تقريباً، وكان آخرها في شباط/فبراير 2018.
ألقت الحكومة المركزية في الرياض باللائمة الأكبر على خالد بن فيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، الذي حاول أن يأخذ المشاريع الجديدة على عاتقه، مع أنه لم يكن يتمتع بأي سلطة قانونية على بلدية جدة المسؤولة عن تنمية المدينة، والتي تتبع مباشرةً لوزارة الشؤون البلدية والقروية في الرياض.
وبرغم أن خالد بن فيصل مارس نفوذه الشخصي بوصفه نجل الملك الراحل فيصل، إلا أنه لم يتمكّن، بسبب السلطة المحدودة لإدارته المحلية، من الحصول على الموارد المالية والقانونية والتنظيمية الضرورية لحكم المنطقة.
وألقى الأمير بدوره باللائمة على البلدية المحلية التي وجّهت أصابع اللوم إلى أرامكو والمتعاقدين. كان الأفرقاء الثلاثة يخوضون معركة من أجل الحصول على الصلاحيات، فيما يتهرّبون من تحمُّل الملامة.
تعكس مشكلة البنية التحتية التي لم تلقَ لها حلاً في جدة، الإخفاق المستمر الذي تعاني منه هيكلية الحوكمة الراهنة في السعودية، ومركزية صناعة القرار في الرياض، وتداخُل السلطات القانونية للمؤسسات، والهيكليات التنظيمية المعقّدة على المستويَين المناطقي والمحلي.
واقع الحال، أنّ مجموعة المؤسسات المناطقية والمحلية، التي يُفترَض بها تطبيق الجزء الأكبر من «رؤية 2030»، معقّدة للغاية. فهي تنقصها الفاعلية، وتعاني من خلل وظيفي أحياناً، لأسباب عدة منها أنها لم تخضع للإصلاح منذ الثمانينيات، ولا تعكس التغييرات الديمغرافية والاجتماعية التي شهدتها البلاد.
تنقسم السعودية إلى ثلاث عشرة إمارة يحكمها أمير ويُعاونه مجلس مناطقي تابع لوزارة الداخلية. وتُقسَم كل إمارة إلى محافظات، يُدير كل منها محافظ ومجلس محلي، مسؤولان أمام الأمير والمجلس المناطقي.
يتولّى الملك تعيين الأمراء لحكم المناطق، إنما لا يتمتعون بأي سلطة حقيقية لتنفيذ مشاريع إنمائية مثل تلك الواردة في «رؤية 2030».
في الأيام الأولى للمملكة، كانت القبائل المحلية هي التي تقوم بتعيين الأمراء، كوسيلة لضمان تمثيلها السياسي وتعزيز فاعلية الحوكمة المحلية عبر تلبية الاحتياجات الإنمائية لتلك القبائل.
ابتداءً من الستينيات، بدأ الملك بموجب نظام المناطق الصادر في العام 1992، بتعيين الأمراء «الذين يُختارون عادةً من أفراد العائلة المالكة،» كوسيلة لترسيخ السلطة المركزية على المناطق.
وبما أن الأمراء يُعيَّنون من خارج المناطق، وبالتالي يكونون في معظم الأحيان غير مبالين باحتياجاتها وغير مطّلعين عليها، فهم ليسوا على تماس مع احتياجات الناس ومع الشبكات القبلية التي من شأنها تسهيل تنفيذ المشاريع الإنمائية.
وبرغم أن الأمراء والمحافظين ومجالس المناطق والمجالس المحلية يخضعون للمساءلة من الملك بشأن التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، إلا أنهم أصبحوا أشبه بكيانات حكومية شكلية.
في موازاة هذه الهيكلية الحكومية المناطقية الخاضعة لإشراف وزارة الداخلية، تتولى وزارة الشؤون البلدية والقروية، إدارة هيكلية مكرّرة للحوكمة على المستوى المحلي. لعاصمة كل واحدة من المناطق «فضلاً عن المدن الكبرى مثل جدة» أمانةٌ، وهي عبارة عن كيان بيروقراطي يتولّى الإشراف على مدن المنطقة وبلداتها.
تشرف وزارة الشؤون البلدية والقروية على مئات البلديات التي تُعنى بتأمين الخدمات اليومية، مثل إدارة النفايات وإصدار تراخيص البناء.
وتخضع الموازنة والمعاملات المالية لهذه الكيانات «المناطق والأمانات والبلديات» للمراجعة والموافقة من المجالس البلدية التي تُعيّن وزارة الشؤون البلدية والقروية نصف أعضائها فيما يُنتخَب النصف الآخر.
لهذه المجالس سلطة محدودة في رفض مقترحات المشاريع، إنما لا رأي لها في كيفية استعمال الأراضي العامة، أو تأمين الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والصرف الصحي.
تتناوب على إدارة هذه الخدمات كل من الأمانات، وفروع الوزارات المعنية في المناطق، والهيئات الإنمائية الخاصة التي يُعيّنها مجلس الوزراء أو الملك (مثل هيئة تطوير مدينة الرياض أو هيئة تطوير المدينة المنوّرة)، والهيئات الملكية التي تخضع مباشرةً لسلطة الديوان، أو تتولى إدارتها ببساطة شركة أرامكو.
بوجود هذه المتاهة من الكيانات الحكومية الوطنية والمحلية «الخاضعة هي نفسها لقوانين صادرة أيضاً عن وزارات متعددة» يسود تشوّشٌ كبير حول التسلسلية الهرمية والسلطة القانونية، لا بل أكثر من ذلك، تتنافس هذه الكيانات على الموارد والسلطة والبروز.
على سبيل المثال، بعد إقالة محمد بن نايف من وزارة الداخلية في 21 حزيران/يونيو 2017، خفّضت الحكومة الحصّة المخصصة للحوكمة المناطقية في موازنة الوزارة، ونقلت الموارد إلى كيانات حديثة العهد، مثل الهيئة العامة للترفيه، التي كلّفها الملك وضع سياسة وطنية للترفيه، وروزنامة بالأحداث والفعاليات موجّهة إلى المجتمع السعودي.
وتُرِكت الهيئات المحلية، التي تتعامل مع الاحتياجات اليومية للسكان ومطالبهم، مع موازنات محدودة جداً، وقد خصّصت الدولة جزءاً كبيراً من الموارد التي تمتلكها هذه الهيئات، لإنفاقها على الفعاليات والمهرجانات الثقافية. فالأدوات والأموال المتوافرة للبيروقراطيين المحليين بالكاد تكفي لتأمين الخدمات المحلية الأكثر أساسية، فما بالكم بالنهوض بالمسؤوليات الإدارية أو الإنمائية الأوسع مثل تحسين الطرقات، وذلك بسبب التنافس المستمر على الموارد.
على المستوى الأعلى، هناك كوكبة من المؤسسات الحكومية التي تعمل على تخطيط الخدمات وتأمينها، ومنها المؤسسة الملَكية، والديوان، ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وكوكبة من الوزارات، ومجموعة من لجان الاستراتيجيات ومكاتب إدارة المشاريع في إطار «رؤية 2030» وبرنامج التحوّل الوطني، فضلاً عن الهيئات الوطنية (مثل الهيئة العامة للثقافة والهيئة العامة للترفيه). لكل هذه المؤسسات مسؤوليات متداخلة «تكمّل بعضها أحياناً، أو تتخطّى بعضها، أو تتنافس في ما بينها» وسلطة قانونية محدودة، تتّسع أو تتقلّص استناداً إلى الموارد المخصصة للمؤسسة، أو المعارف الشخصية للمسؤولين عنها. وهذه المنظومة المعقّدة تطغى عليها أيضاً كيانات أُنشئَت حديثاً مثل الهيئة الملكية للجبيل وينبع، والهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدّسة.
تُقدّم منطقة جازان، التي تقع عند الساحل الغربي للمملكة، ومن المتوقّع أن تتحوّل إلى مصدِّرة جديدة وأساسية للنفط، مثالاً صارخاً عن إخفاق المركزية. ففي العام 2015، وفي تهميش للسلطات المناطقية والمحلية الخاضعة لإشراف وزارة الداخلية ووزارة الشؤون البلدية والقروية، عمدت الحكومة المركزية إلى تكليف الهيئة الملكية للجبيل وينبع (التي تأسست في العام 1975 لإدارة المدن في المنطقة الشرقية)، بإدارة وتشغيل مدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية، وهي مدينة مرفئية صناعية جديدة، ستبنيها شركة أرامكو على ضفاف البحر الأحمر.
إنه المشروع الإنمائي الكبير الوحيد في منطقة جازان، ما يجعل إنماء المنطقة بكاملها متوقّفاً على نجاحه. لكن ما خلا الإشراف على المشروع ومراجعته، لن تُشارك أي مؤسسة محلية في التخطيط له، أو وضع موازنته، أو تنفيذه، ما يعني أنه لن يكون للقبائل المحلية «بعضها من أصول يمنية، وتنتمي إلى منطقة متشنّجة جيوسياسياً في السعودية» رأيٌ في هذا المجال.
المسعى الذي يبذله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لإضفاء المركزية على جميع آليات صناعة القرارات، على وفق ما تُظهره العملية الهرمية من الأعلى إلى الأسفل التي أنتجت «رؤية 2030»، لا يمكن النظر إليه سوى بأنه محاولة لكبح الانتقادات السياسية والاضطرابات الاجتماعية المحتملة.
بيد أن هذه المركزية والتداخل بين سلطات الحوكمة المحلية يعطّلان تطبيق المشاريع، ما يؤدّي إلى تقويض صدقية المؤسسات المحلية والمركزية على السواء. فإذا لم يتم تمكين هيئات الحكم المحلية وترسيخ المؤسسات المتنافسة، لن تتمكّن السعودية من تنفيذ الإصلاحات والمشاريع الضرورية لإنقاذ جدة من الفيضانات، فما بالكم بتحقيق التحوّل وفقاً للتصوّر الذي وضعته «رؤية 2030».
*مركز كارنيغي للشرق الأوسط