ما وراء نيران اليونان القاتلة

يانيس فاروفاكيس

أصيبت أتيكا بابتلاء إلهي يوم الاثنين الماضي. ولقد رأيت أول علاماته في وقت متأخر من صباح ذلك اليوم في مطار أثينا، عندما كنت أودع ابنتي التي كانت متوجهة إلى أستراليا. إذ دفعتني قوة رائحة احتراق الخشب إلى النظر نحو السماء، حيث كانت تسطع شمس أصبح لونها الأصفر يميل إلى البياض، ويحيط بها سواد يشبه كسوف وسط النهار، وهي علامة تكشف عن وجود دخان كثيف في السماء.
وفي قت مبكر من مساء اليوم نفسه، انتشر الخبر بسرعة، فقد دمرت منازل العديد من أصدقائنا وبعض من أقاربنا في شرق أتيكا، والتهمت النيران كل شيء في طريقها صوب الشريط الساحلي الذي بني بعناء شديد، فدمرت منطقة ماتي السكنية وبلدة رافينا، واضطر السكان إلى الفرار نحو البحر.
وكانت أول مرة أسمع فيها عن وقوع ضحايا هي عندما أخبرني أحدهم عن مأساة ناشطين ينتمون إلى حركتنا السياسية الديمقراطية في أوروبا 2025. فقد دمرت ألسنة النيران منزلهم في ماتي، ودمرت منازلا أخرى في الشارع نفسه، لكنهم تمكنوا من النجاة بحياتهم في الأقل .
ولم يقض في هذه النازلة إلا جيرانهم. وعندما عثر على جثثهم في الصباح الموالي، كانوا في وضع انحناء إلى الأسفل، في حين كانت ابنتهما البالغة من العمر أربع سنوات في وضع منكمش تدمع له العين.
وما زالت الاخبار السيئة متواصلة. فما زالت صديقة لي وزوجها اللذان يقطنان بسميثرينز في عداد المفقودين. واضطر ابن عمي، الذي يتواجد منزله بجرف على مقربة من البحر إلى القفز من مستوى 70 مترا نحو مياه تتخللها صخور عندما التهمت النيران منزله. ولحسن الحظ، فقد، أنقذه الصيادون.
لكن الأشخاص الست والعشرين الآخرين الذين يقطنون على الساحل نفسه، استسلموا للدخان والنيران قبل أن يتمكنوا من الوصول إلى الماء. وتزامنا مع كتابتي لهذا المقال، وصلت حصيلة القتلى إلى 81 شخص، مع عدد غير محدود من الأشخاص المفقودين. تخونني الكلمات.
لماذا حدث هذا؟ لقد خلف فصل الشتاء الجاف كميات كبيرة من الغابات القاحلة، التي تسببت في اشتعال النيران الملتهبة حين وصلت درجة الحرارة إلى 39 درجة (120 فاهرنهايت)، ووصلت قوة الرياح إلى 130 كيلومترا ( 80 ميلا) في الساعة. إلا أنه في يوم الاثنين الاسود اسهم الطقس وفشل اليونان المستمر معا في تحويل نيران الغابة إلى نار جهنم قاتلة.
لقد اعتمد اقتصاد اليونان بعد الحرب على عقار عشوائي وغير مخطط له يتم بناؤه في أي مكان وفي كل مكان (بما في ذلك الوديان وغابات الصنوبر)، مما يجعلنا، كأي دولة نامية، معرضين لنيران الغابات القاتلة في فصل الصيف وفيضانات مفاجئة في فصل الشتاء (في فصل الشتاء الماضي، قضى 20 شخصا كانوا يقطنون في بيوت بنيت في قعر مدينة قديمة في اليونان)
ومن الطبيعي أن يكون عدم استعداد اليونان الدائم سببا آخر في هذا الفشل الجماعي. ونذكر على سبيل المثال، فشلها في التخلص من الأغصان التي تراكمت في الغابات والساحات الواسعة في فصل الشتاء والصيف، أو في بناء منافذ لهرب السكان في حالة الطوارئ.
وهناك أيضا لوبيات تقوم بنشاطات غير قانونية، مثل وضع حاجز لغلق الساحل المحيط بالمنازل المطلة على البحر، بغرض الحفاظ على خصوصية الشاطئ.
شاهدا عيان قالا في أثناء تبادلنا للحديث: أن العديد من الناس أصيبوا بجروح بالغة في أثناء محاولاتهم اختراق السياج الشائك الذي وضعه الأغنياء ليفصل بينهم وبين البحر.
وأخيرا وليس آخرا، هناك شعور جماعي بالذنب. فهذه الكارثة ما هي إلا برهان عن الكوارث الطبيعية التي يسببها التغير السريع للمناخ، والتي تعاقبنا على أخطائنا.
وكما جرت العادة عندما تلتهم نيران الغابات اليونان، تلمح الحكومة إلى أن السبب هو إضرام النار بنحو متعمد. وبرغم أنني لا أستبعد احتمال ارتكاب جريمة، فأنا غير مقتنع بهذا التلميح. فلطالما ألقت اليونان اللوم على الانتهازيين، ومن يتعمد إضرام النار والإرهابيين، بل وحتى العملاء الأجانب لأن ذلك يناسبها.
ونظرا لسيطرة الحرائق على الأخبار، يتفادى المسؤولون تقبل عدم استعدادهم وفشلهم في اعتماد قوانين وإجراءات وقائية ملائمة وتعزيزها.
أي دور يلعبه التقشف والإحباط الكبير الذي تعيشه اليونان في عدم فعالية الرد؟ إن أقسام الإطفاء، ووكالات حماية المواطنين، وخدمات الإسعاف، والمستشفيات، تعاني من نقص في الموظفين.
وبرغم أن الحرائق لم تكن لتخمد حتى ولو كان لدينا ثلاث اضعاف عدد رجال الإطفاء وطائرات الإطفاء، لا يمكن أن يكون بلد عانى من ضعف المرفق العام لمدة عشر سنوات، ومجتمعاته هذا البلد ومعنوياته على استعداد كاف لمواجهة كارثة تصبح أكثر خطورة بسبب تغير المناخ.
يسألني الصحافيون عما إذا كان الاتحاد الاوروبي يتدخل للمساعدة. والحقيقة أن النيران المدمرة، كانت في اليونان قبل وبعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتعويض الدراخما باليورو. ولم يفعل الاتحاد الأوروبي أي شيء لمساعدتنا لإخماد النيران، لأن ذلك لا يندرج ضمن مهامه ولا يمكنه تحمل مسؤولية اندلاع النيران، أو استغلال المجتمع اليوناني للبيئة الطبيعية لمدة 70 عاما. ولكن مالا نقاش فيه، هوان الدائنين الثلاثة الرسميين لليونان-المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي-حرموا دولة اليونان من الموارد والقدرات التي تحتاجها في مثل هذه الحالات.

ألم يحن الوقت إذا (سؤال طرحه الصحفي نفسه) أن تثور اليونان وتطالب بوضع حد لنظام التقشف، ولسياسة التقليص من حجم الميزانية التي تنفقها، والتي تعرقل استمرار اليونان؟ بالطبع أجل! إن كل وقت هو الوقت المناسب لمواجهة الثلاثي بشأن سياسة التقشف التي تشل من حركتها والسياسات الاجتماعية التي تنبذ الآخر، والتي أدت إلى أزمة إنسانية دائمة في اليونان.
ولمدة دامت عشر سنوات، كان عدد الضحايا الذين قضوا عقب مأساة تأسيس الاتحاد الأوروبي أكثر من أي فيضان، أو نيران غابوية. إذ انتحر أكثر من 20.000 شخص منذ 2011، في حين يهاجر واحد من كل عشرة مواطنين يونانيين في سن العمل بسبب الأزمة الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان.
وأتوقع أن تذرف دموع التماسيح على ضحايا النيران في بروكسيل، وأن تصدر الحكومة اليونانية تصريحات منافقة. ولكنني لا أتوقع أن تغير اليونان سياسة كره الآخرين التي انعكست سلبا عليها فقط، لأن 100 شخص قضوا في يوم واحد. وإن لم يتحلى مؤيدو الإصلاح بالنظام وحس المسؤولية، وإن لم يتحدوا لوضع ضغوطات على مستوى الاتحاد الأوروبي، فلا شيء سيتغير، ماعدا تعزيز قواتها السياسية الباغضة للبشرية، مثل حزب الفجر الذهبي ورابطة إيطاليا، والاتحاد المسيحي الألماني، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحكومة سباستيان كورز المتقشفة، والرابطة الديمقراطية الليبيرالية البولندية-الهنغارية.
وفي هذا السياق، تبقى النيران التي اندلعت في اليونان تذكيرا مأساويا لمسؤوليتنا جميعا كأوروبيين.

ترجمة نعيمة أبروش

* يشغل يانيس فاروفاكيس ، الوزير السابق للمالية في اليونان، منصب أستاذ الاقتصاد في جامعة أثينا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة