إن جمع هذا العنوان للشتيتين (الديمقراطية والعشائر) يعكس حقيقة المشهد الغرائبي لما وصل اليه حال هذا الوطن القديم بعد أكثر من عقد ونصف على زوال النظام المباد، وانطلاق ما تم تسميته بـ (مرحلة العدالة الانتقالية) التي تمهد الطريق أمام الشعوب والأمم لامتلاك عقدها الاجتماعي الذي يؤسس للنظام الديمقراطي، وبالتالي الولوج الى عالم الدولة الحديثة ومؤسساتها. ما حصل لنا برفقة هذه الطبقة السياسية (المتناغمة وضحالة الهموم والاهتمامات التي أورثها لنا النظام المباد) اننا استنزفنا كل ذلك الوقت والجهود والموازنات الاسطورية والطاقات والفزعات؛ كي تسترد الكيانات والقوافل التقليدية الغابرة (العشائر والطوائف والملل وما يتجحفل معهم من مساطر للقيم و”الشرف” وأنماط للعيش لا تتفق وأبسط شروط ومتطلبات الحياة الحديثة)؛ لسطوتها ومكانتها الوصائية الفاعلة في إدارة شؤون الوطن واحوال شعوبه من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، وهذا ما يمكن التعرف عليه عبر سلسلة الكرنفالات والكونفرنسات والمؤتمرات التي عقدتها القبائل والعشائر والطوائف تحت رعاية وعناية حكوماتنا المندلقة من جوف الصناديق، حيث تم تفعيل تجربة النظام المباد ويافطاته في التعاطي مع هذه الكيانات التي هجرتها شعوب الهوتو والتوتسي على ماهي عليه من قرابة حديثة مع سكان الغابات والأدغال.
اليوم وبعد كل ذلك النحس والضيم الذي أشرنا اليه، تتقدم العشائر لتلقف زمام الاحتجاجات والتظاهرات التي لم تهدأ منذ لحظة انطلاق “ربيع العرب” حتى هذه اللحظة، حيث أصدرت عدة تجمعات عشائرية لبياناتها التي تهدد فيها الحكومة بأنها ستتكفل بتقويم هذه الصيغة من الديمقراطية؛ إن لم تستجب لمطالبها التي تبدأ بالماء والكهرباء والوظائف ولا تنتهي إلا ببعث الروح للنظام الرئاسي..! وبالرغم من الصورة التقليدية المعروفة لدى غالبية العراقيين، عن هذه الكيانات التقليدية ودورها ووظائفها ودقلاتها على مر تاريخنا الحديث ؛ إلا أن غالبية الكتل والجماعات المتنفذة ما زالت تواصل لعبة التملق والتزلف لهذه الكيانات وشيوخها، حتى وصل الأمر بقدراتها وتطلعاتها الى حدود لا تحمد عقباها، لا سيما بعد انضمام التظاهرات الى البوم هواياتها الجديدة.
ان مثل هذه الظواهر والاختلالات والاعراض المرضية، بمقدورها مساعدتنا على امتلاك الحلول والسبل الناجعة للخلاص؛ ان توفرت الإرادة المقرونة بالوعي العلمي بها، لأن التشخيص الدقيق والصحيح هو الذي يؤسس للعافية والنهوض المنشود. علينا جميعاً وضع ما مر به وطننا في تاريخه الحديث من محطات مريرة وقاسية، أفقدته الكثير من الإمكانات والأرواح والثروات والفرص، لتحقيق التنمية في شتى المجالات المادية والروحية، لا سيما أم الكوارث (الحروب) واعوام الحصار الجائر، والتي جعلت من تحقق الحاجات البدائية للفرد مورد سعادة كبيرة له، وهذا بحد ذاته يكشف مدى الهزائم التي لحقت بالعراقيين (افرادا وجماعات) ويوضح العلل خلف هذا التورم الهائل لتلك الشرنقات التقليدية (القبائل والطوائف والملل و..). كما ان حال وأحوال ما يفترض انها مؤسسات حداثوية (الأحزاب والتنظيمات المهنية من نقابات وجمعيات ومنظمات للمجتمع المدني و..) حيث هي اليوم عبارة عن حطام من الأبنية والأدوار والبشر، بعد أن تقطعت بها السبل عن مصادر قوتها وحيويتها، أي الشرائح الاجتماعية والبرامج التي وجدت من اجل الوصول اليها وتحقيقها، لذلك كله وجدت العشائر فرصتها التاريخية لتقويم ديمقراطيتنا العتيدة..
جمال جصاني
تقويم الديمقراطية عشائرياً…!
التعليقات مغلقة