يؤرخ للبدايات النقدية
شكيب كاظم
وأنا أقرأ الكتاب النقدي المهم وأهميته متأتية من أنه يمثل البدايات النقدية في الادب العربي الحديث والمعاصر، وهو كتاب قرأنا عنه كثيراً ويرد ذكره في الدراسات النقدية والأدبية، واعني كتاب (الديوان في الادب والنقد) وهو مفقود من سوق الكتب والوراقين، بسبب بعد العهد بطبعه لأول مرة إذ طبع سنة 1921، واعيد طبعه في السنة ذاتها، وطبع ثالثة طبعة من غير تأريخ ولعلها في عقد الستين من القرن العشرين، إذ تولت وزارة الثقافة في مصر وقتذاك طبع نوادر الكتب بطبعات ميسرة الثمن، وبورق الجرائد صدرت في ضمن مطبوعات دار الشعب.
وأنا أقرأ هذا الكتاب الذي تولى تأليفه وكتابته عباس محمود العقاد (1889 -1964) وإبراهيم عبد القادر المازني (1890 -1949) تناوشا فيه أربعة من كبار شعراء مصر وكتابها، فكان الشاعر احمد شوقي (1869- 1932) والشاعر الكاتب مصطفى صادق الرافعي (1880 -1937) من حصة العقاد، في حين ترك للمازني نهش الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي (١٨٧٦ -١٩٢٤) والشاعر الكاتب عبد الرحمن شكري (1886 -1958) تقرأ الكتاب وحدسك وباصرتك يؤكدان عدم نزاهة القول وكأن المسألة تصفية حسابات، أو محاولة لجلب شهرة على حساب الحقيقة وشرف الكلمة، ولأن الاناء ينضح بما فيه ويكاد المريب يقول خذوني، وما اخفاه الطيلسان يظهر على اسلات القلم واللسان، فها هو العقاد المرتاب بنزاهة كتابته يقول (كنا نسمع الضجة التي يقيمها شوقي حول اسمه في كل حين فنمر بها سكوتاً (….) لا استضخاماً لشهرته ولا لمنعة في ادبه عن النقد، فإن أدب شوقي ورصفائه من اتباع المذهب العتيق هدمه في اعتقادنا أهون الهينات، ولكن تعففاً عن شهرة يزحف إليها زحف الكسيح….) تراجع ص 27.
إذن هو باحث عن شهرة قد لا تدوم، وفرق كبير بين الشهرة وخلود الذكر ولاسيما إذ كان الذكر حميداً فضلاً عن صاحبه المازني الذي ما قدم للحياة الثقافية شيئاً يذكر عد روايتيه (إبراهيم الكاتب) و(إبراهيم الثاني) والعنوانان مستمدان من اسمه، روايتان توجه لهما النقود بالضعف، اشبه باعمال علي احمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله وكامل مهدي وأمين يوسف غراب وغيرهم.
وإذ إنهال العقاد تجريحاً بشوقي، فإن المازني كان أشد قسوة ووطأة على المنفلوطي، وهو يقراً كتابيه (النظرات) و(العبرات) ففي فصل عنونه بـ ( أدب الضعف) يقول المازني (الأدعياء في كل بلد كثيرون وفي كل قطر كالذباب يعيشون عيالاً على الأدب(….) يظهر الدعي فيستولي على الميدان، ويخر الناس له سجداً إلى الاذقان، ويباهون به الأمم والأزمان) تراجع ص 117.
تجريح وليس نقداً
ويظل المازني بصفعنا بهذه المسجوعات الثقيلة، ولا طائل من ورائها أو قدامها بل سخف وتجريح فها هو إيغالاً في الانتقاص والإتهام، يؤكد أن المنفلوطي ما ان سمع بعزم المازني ورصيفه العقاد، أصدار كتابهما التجريحي هذا حتى قرر أن يولم له وليمة لا تقاء شره وبلواه، ووافق المازني على حضور الوليمة، لكن مرضاً ألم به منعه من حضورها وفاتته الوليمة الدسمة (فما احسن المصائب في بعض الأحيان) تنظر ص 125.
ونعود لنؤكد هفوات اللسان المفصحة عن ما رسب في الجوانح، فكأن تأليف هذا الكتاب، محاولة للابتزاز التي افصح عنه في وليمة الطعام التي اضاعها عليه المرض.
ما نجا من شواظ قلمه حتى استاذه عبد الرحمن شكري، وكان أشد وطأة عليه، فها هو يصفه بـ (الصنم) في مقال عنوانه (صنم الألاعيب) إنه صنم ولا كالأصنام، القت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل أليَم، يؤكد فيه خموله وفشله في كل ما عالجه من فنون الادب، لأنه لا أسلوب له، إذ كان يقلد كل شاعر، ويقتاس بكل كاتب، وينسج على كل منوال، تنظر ص 95.
هذا الحديث القاسي وغيرُه الكثير، ترك آثاراً سيئة على نفسية عبد الرحمن شكري، وحياته هو الحساس المأزوم المكتئب، فزاده هذا الأمر تعقيداً فعاش حياته الباقية في عزلة تامة تاركاً الادب والكتابة والحياة العامة حتى وفاته نهاية سنة 1958.
ويبدو ان إبراهيم عبد القادر المازني، ما أكتفى بما أورده في الجزء الأول من كتابه (الديوان في الادب والنقد) فها هو يعود في الجزء الثاني منه اللذين اصدراه في السنة ذاتها 1921، التي اصدرا فيها جزءه الأول لما هو اشد نكالاً وقساوة، مستعيراً العنوان ذاته (صنم الألاعيب) وكأنه لا يريد مغادرة هذا الوصف قائلاً (مسكين هذا الصنم لا يعرف لبكمه ماذا يقول، ويتطوع المشفقون عليه للدفاع عنه، فيجيء دفاعهم اقتل له من نقدنا (…) وماذا يجدي ذودهم عنه؟ لقد كنا وكان شكري نخلص له النصح ونمحضه الرأي) (….) فهل كان علينا أن نظل العمر طامعين في غير مطمع ثم أنزلناه على شيء من اليأس منه ثم تخشَّنا له وعنفنا عليه في الزجر، فلم يُغْنِ لا الاغضاء والا اللين ولا العنف، وظل سادراً راكباً رأسه حتى احفاه ) تراجع ص 250.
وكأن الأيام، تخفف من غلواء النفس وفورة الشباب وعنجهيته، فإذ انفض السامر، ومرت الأيام سراعاً، وعاد الوعي إلى العقل الجامح اعلن العقاد ما يشبه ندمه ما فرط في شوقي، ولكن بعد فوات الأوان وبعد أن مات شوقي، وماتت أحقاد العقاد واحنه، فلقد كان الموت هو الفيصل والفصل، وقديماً قالت العرب: المعاصرة حجاب.
المسألة الأخرى، التي أود الوقوف عندها، وأنا أرى هذه القسوة في الالفاظ والتهكم الجارج فضلاً عن قراءتي لكتب عدة وقفت عند هذه الظاهرة.
كان المجتمع يقبلها على علاتها
ظاهرة ما اسميه (سلاطة اللسان) في تجريح الآخر، والنيل منه وحتى الوصول إلى خصوصياته ومن هذه الكتب ( ماذا يبقى من العقاد؟) و(العقاد في معاركه الادبية) لسامح كريم، فضلاً عن كتاب (الزهاوي في معاركه الأدبية والفكرية) للباحث العراقي الراحل عبد الرزاق الهلالي، والكثير من كتابات الدكاترة زكي مبارك، الاديب المصري المشاكس المباكس، فلقد دخل العقاد في معارك مع ادباء عصره مثل: طه حسين، وسلامة موسى، وجميل صدقي الزهاوي، والدكتور محمد حسين هيكل، وزكي مبارك، وأحمد زكي أبو شادي وتوفيق الحكيم والشيخ أمين الخولي، وزوجته الباحثة الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) ومحمد مندور، ومحمود أمين العالم، وعبد العظيم انيس، وإبراهيم بيومي مدكور، ممن وقف عندهم سامح كريم في كتابه آنف الذكر، فضلاً عما وقف عنده في كتابه (طه حسين في معاركه الفكرية والأدبية) ولقد احسن سامح كريم وعبد الرزاق الهلالي صنعاً، إذ وصفا هذه الكتابات بـ (المعارك) فهي ليست نقوداً، بل صراخ وتجريح وان لم تخلُ من نقدات وأفكار، لكن ضاع ذلك كله في خضم الضجيج والعجيج.
ولأنه لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، فلم يسلم من قساوة رأيه شعر التفعيلة، إذ بعد ان نال من أحمد شوقي في كتابه هذا (الديوان في الادب والنقد) الصادر سنة 1921 لأنه كما يقول كان تقليدياً يحاكي الاقدمين في لغته وصوره، كان رأيه بالشعر الجديد سلبياً، إذ عده نثراً ويوم كان مقررأ للجنة الشعر في المجلس الأعلى للآداب والفنون كان يحيل قصائد التفعيلة التي ترد إلى لجنة الشعر يحيلها إلى لجنة النثر للاختصاص!!
هذه الظاهرة التي تلاشت رويداً رويداً من حياتنا الثقافية مع صعود نجم حكومات الانقلابات العربية بداية النصف الثاني من القرن العشرين ثم اختفت نهائياً مع القرن الحادي والعشرين.
هذه الظاهر الصحية – على علاتها- يجب دراستها والوقوف عندها ملياً، إذ تشير لا بل تؤكد ضيق صدر مجتمعاتنا في الرأي المغاير أو المخالف، ولقد كنت -وما زلت- احضر عديد الندوات والمؤتمرات الثقافية، وأرى العجب العجاب واسمع من ضيق صدر المتحاورين أو المتناقشين، حتى امسى المحرر الثقافي لا يرغب في نشر الردود والمناقشات، تخلصاً من وجع الرأس، وإذا نشرها فينشرها على استحياء.
إن (الديوان في الادب والنقد) كتاب وثائقي مهم يؤرخ للحركة الفكرية والثقافية في مصر والوطن العربي، يدون البواكير النقدية العربية ممثلة بعملاق الكتابة العربية – آنذاك – عباس محمود العقاد، الذي ظل يواصل الكتابة والإنتاج حتى اخريات سنواته، في حين توقف المازني، ولقد احسنت الجهات الثقافية في مصر، إذ اعادت طبع هذا الكتاب، الذي كان مؤلفاه، العقاد والمازني يتنفجان ويتباهيان بأن سيصدراه في عشرة أجزاء، لكن ما صدر منه إلا جزءان، بنحو مئة وعشرين صفحة!
ولعل ضغوطاً مورست ازاءهما فاوقفا هذا المشروع النقدي الرائد، فمن المعروف للدراسين، حظوة الشاعر أحمد شوقي، لدى الناس والحكام، أو لعلها هي مشاغل الحياة، اخذتهما عن هذا المشروع أو…. أو… إذ اعادت الهيئة المصرية العامة للكتاب في ضمن مهرجان القراءة للجميع.
مصر تعيد طبع الكتب المهمة
طبع هذا الكتاب الوثائقي النادر سنة 2000 ومصر سباقة في اجتراح هذا الطقس الثقافي المهم، إذ اعادت أواخر القرن العشرين طبع المجلة النقدية والشعرية (ابوللو) التي كانت تصدرها (جماعة ابوللو) التي ترأسها الشاعر احمد زكي أبو شادي، إذ في منهاج هذا المهرجان القرائي التوجه إلى آفاق الموسوعات الكبرى ، بدءاً بإصدار موسوعة (مصر القديمة) للعلامة الآثاري الكبير سليم حسن في ستة عشر جزءاً إلى جانب السلاسل الراسخة الإبداعية والفكرية والعلمية والروائع وامات الكتب كما يذكر الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة – رحمه الله- في تقديمه للكتاب.
إن كتاب (الديوان في الادب والنقد) من الكتب المهمة التي يتوجب على الأجيال الجديدة، من الدارسين والقراء الوقوف عنده، وأهميته متأتية من انه يمثل البدايات النقدية فضلاً عن التأشير لظاهرة النقود، حتى وإذا كانت قاسية وجارحة التي كانت سائدة في تلك السنوات، في حين تلاشت في عقود تلت، بسبب ضيق صدر المتحاورين، وهذا ناتج في ظني عن ان المجتمعات العربية بدأت بالتراجع منذ بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، لأنها اضاعت ثقافة الغرب واوربة في الحوار والنقاش، واحلت بدلها الاديولوجيات القاتلة، القائلة بأني صاحب الحقيقة، والحقيقة كلها، ومقولات الاقصاء والرأي الأحادي الواحد، والثوريات التي ما قتلت نملة أو ذبابة، بل قتلت شعوباً، والبرهان الخريف الذي ضرب الوطن العربي منذ 2011.