محمد زكي ابراهيم
كنت أظن إلى وقت قريب أن القوة الناعمة التي تلجأ إليها الشعوب المتحضرة حينما ينشب بينها خلاف، ليست إلا جلسة عتاب حالمة لإطفاء نائرة الغضب، أو فصلاً عشائرياً لإصلاح ذات البين. وقد هداني الخيال إلى أن حرباً ناعمة لن تكلف سوى غداء عمل في ناد، أو عشاء سمر على ضفة بحيرة، مع بعض الهدايا الصغيرة الحجم، الغالية الثمن.
ولأنني حسن الظن بالآخرين، فقد تصورت أن ساعة شارلمان، أو زرافة نابليون، أو جواري سعيد بن سلطان، هي في الأصل قوى ناعمة أراد بها أصحابها في عصور سابقة البرهنة على أن ثمن السلام بخس وزهيد.
ولكنني حينما كبرت، وقرأت لرجل مثل جان جاك روسو أن الأقوى لا يكون قوياً بما فيه الكفاية حتى يكون سيداً، وحتى يحول قوته إلى حق، وطاعته إلى واجب، أدركت أن القوة الناعمة ليست نزهة أو مزحة، ولا زرافة أو فيلاً، ولا جواري أو إماءً. بل هي أعظم أشكال القوة على الإطلاق. وأنها قد لا تقتل أشخاصاً، ولكنها توقع من الخسائر أشد مما توقعه المدافع أو الطائرات.
وعرفت كذلك أن أمضى أنواع القوة الناعمة هي الثقافة، وأن الدول الكبرى تعول عليها أكثر من أسلحة الدمار الشام التي تملكها ولا تستطيع استعمالها لاعتبارات شتى.
وحتى يمكن للثقافة أن تؤدي دورها على أحسن وجه فإنها تحتاج إلى أشخاص يتقنون اللعبة، ومؤسسات تمتلك الخبرة. وأروع ما في هذا الدور هو إقناع الآخرين أنها هي الأفضل، وأن ثقافتهم هي الأدنى. فيشعرون بالدونية إزاءها، ويهرعون للاستسلام أمامها.
إن الأدب والفن والمسرح والسينما ووسائل الإعلام .. هي عناصر فاعلة، قادرة أن تجعلك في عيون الغير سيداً، وفي ميزان الناس حاكماً. وبإمكانها إضعاف الخصم، وشل معنوياته، دون هوادة.
والثقافة هي القوة الناعمة التي تعمل على تفتيت الشعوب المعادية، وإبعاد الجماعات العرقية عن بعضها، وتدفع بقسم منها إلى المطالبة بحق تقرير المصير، والانفصال عن الوطن الأم.
بل إن جمعيات حقوق الإنسان، وحماية المرأة، والدفاع عن الأقليات، والتعددية، والكونية، هي في الأصل قوى ناعمة تستخدم هذه الأيام على نطاق واسع لترسيخ أسس ثقافة بعض الأمم في مواجهة بعضها الآخر.
ولسنا نحن في العراق والبلاد العربية بمنأى عن هذا المصير. فمنذ عقود ونحن نخضع لهجوم ثقافي واسع. حتى بتنا نشعر باليأس من أي تغيير ممكن، والأسى على أي مستقبل آت. وقد انقسمت دولنا، وتفككت بلداننا، وخربت مدننا، وهجر الملايين من أبنائنا أرضهم إلى الأبد.
ولا أعلم لم غفلنا نحن عن هذه القوة، مع أننا كنا أول الضحايا. وكانت هويتنا محل هجوم دائم. وفي كل مرة كنا نتجه وجهة ما مختلفة عما قبلها. حتى اقتنعنا في الأخير أن لا حل لنا إلا أن نغترب روحياً أو جسدياً. وهذا هو ما حدث بكل أسف.