كلما تقدم الزمن بنا، كلما ازدادت الحاجة الى المعرفة اكثر، لكن الغريب ان العكس يحدث اليوم اذ تتراجع الحاجة الى المعرفة بنحو مضطرد، حتى ليبدو وكأن البعض يولد وهو عالم وملم بكل ما حوله، وهنا الخطورة، لأن الحقيقة التي لا تقبل الجدل والتي تسود اليوم، تتمثل بان التحولات المجتمعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة والهزات التي تعتريها، تتطلب ان نعرف اكثر، وان نطور في مفاهيمنا، لأن هذه المفاهيم لم تأت من تلقاء نفسها، وانما تولدت نتيجة تراكمات معرفية، وهنا نحتاج ان نتأمل امراً مهما ودقيقا معاصرا اليوم، هذا الامر يتمثل بالديمقراطية التي نسعى اليها من دون ان نعرف انها تولدت نتيجة معارف في الثقافة والسياسة والاقتصاد، وان الفلسفة ما مهد لديمومتها حتى الان.
كان ظهور الفلسفة في بلاد اليونان إعلانا عن إحداث قطيعة في التفكير لدى الإغريق، اذ تم الإنتقال من الخطاب الشفوي الأسطوري إلى الخطاب الفلسفي المكتوب الذي يعتمد على الاستدلال العقلي وإنتاج الأفكار والمفاهيم العقلية المجردة. وقد كان للعامل السياسي دور كبير في بزوغ هذا الفكر الجديد فقد ظهرت الفلسفة في مناخ ديمقراطي عرفته المدينة الدولة، حيث سادت حرية التعبير وأصبحت كل القضايا مطروحة للنقاش الحر والعلني.
ويعد طاليس وأنكسمانس وأنكسمندر أقطاب المدرسة الأيونية التي ظهرت في مدينة ملطية في القرن 6 ق.م. وقد كانوا علماء يهتمون أساسا بالرياضيات والعلوم الطبيعية، غير أن هذا لم يمنع الكثير من الباحثين من نعتهم بالفلاسفة الطبيعيين نظرا لاهتمامهم بالطبيعة وأصل الكون.
وشكلت أبحاثهم قطيعة مع الفكر الأسطوري الذي كان سائدا من قبل في بلاد اليونان، مما يجعلهم يمثلون الإرهاصات الأولى للفكر الفلسفي في الحضارة الإغريقية.
وسميت المدرسة الأيونية بهذا الاسم نسبة إلى إقليم أيونية الواقع على شاطئ آسيا الصغرى، وتم تكوينه وتأسيسه في مدينة ملطية خلال القرنين 7و6 ق.م. وقد سمي فلاسفته بالطبيعيين لبحثهم في أصل الطبيعة والوجود.
واسهمت عدة عوامل في ظهور الفلسفة : منها استفادتهم من ثقافات وعلوم الحضارات الشرقية القديمة كالفرعونية والبابلية، كما ارتبط ظهور الفلسفة بظهور نظام الدولة المدينة كنظام سياسي ديمقراطي عرف جدلا وحوارا وحرية في التعبير، واستخداما لأساليب المحاججة والبرهانية.
وتقع بلاد اليونان في القارة الأوروبية. وتحدها من الشرق آسيا الصغرى، ومن الغرب إيطاليا. أما في الشمال فنجد مقدونيا، في حين تقع جزيرة كريت في الجنوب.
وواضح أن موقع اليونان الاستراتيجي اسهم في تحضرها وازدهار مدنها؛ فآسيا الصغرى التي توجد شرق اليونان كانت، في الفترة السابقة للفيلسوف اليوناني الكبير أفلاطون، تعرف رواجا تجاريا وصناعيا، وكذلك ازدهارا فكريا و ثقافيا. كما كانت جزيرة كريت التي تتواجد في البحر الأبيض المتوسط جنوب بلاد اليونان تعرف هي الأخرى تحضرا وتمدنا في الألف سنة الثانية قبل المسيح. وهذا الازدهار الحضاري الذي عرفته بلاد اليونان سواء في الشرق أو الجنوب، فضلا عن استعمار أجزاء منها من طرف صقلية وإسبانيا، سيسهم بشكل كبير في تحضر المدن اليونانية نظرا لما عرفته من رواج اقتصادي وازدهار ثقافي.
وقد كانت المدن اليونانية منعزلة عن بعضها البعض بفعل العوامل الطبيعية من تضاريس وبحار، وهو أمر جعل كل مدينة عبارة عن دويلة صغيرة تعيش اكتفاء ذاتيا، سواء من الناحية الاقتصادية بفعل الأرض الزراعية الخصبة أو من الناحية السياسية والثقافية، إذ عرفت هذه المدن نظما في الحكم وأسلوبا في العيش وأشكالا ثقافية تميزها عن بقية المدن في الولايات الأخرى.
ومن أهم تلك المدن “أثينا” التي تحتل موقعا متميزا في بلاد اليونان، إذ كانت البوابة التي تطل على مدن آسيا الصغرى وعلى حضارة الشرق القديم. وهذا الموقع جعلها تستفيد من علوم الحضارات الشرقية العريقة وثقافاتها وخيراتها الاقتصادية، خصوصا إذا علمنا أن أثينا كانت تتوفر على أسطول بحري كبير حولته فيما بعد إلى أسطول تجاري، سيجعلها في تلاقي ثقافي وتجاري دائم مع الشعوب المجاورة.
ومن بين العوامل التي ساعدت على ظهور التفكير الفلسفي في بلاد اليونان:
– إشاعة السلطة السياسية بين الناس: إذ لم تعد حكرا على بعض العائلات، بل أصبح الجميع يسهم في اتخاذ القرارات السياسية التي يتوصل إليها عن طريق قواعد الإشهار والدعاية السياسية والحوار الصريح والنقاش الحر الذي يتأسس على تبادل الحجج ووسائل الإقناع المختلفة.
– إشاعة الثقافة بين الجميع؛ وذلك بفضل انتشار الكتابة الأبجدية التي أتاحت للناس تعلم القراءة والكتابة، والمشاركة في المنتديات الثقافية واللقاءات الأدبية والأنشطة الفنية والمسرحية، التي كانت تعرض في الساحة العمومية أو “الأغورا” أمام أعين الناس.
وهكذا فإن انتشار حرية الرأي وإشاعة ثقافة الحوار اسهم في تطور فكر يتأسس على قواعد الحجة والاستدلال والبرهان والنقد وحوار المناظرة…. وهي من أهم الخصائص التي يرتكز عليها التفكير الفلسفي.
وعلى العموم يمكن اختصار عوامل نشأة الفلسفة عند اليونان فيما يلي:
– عوامل اقتصادية: عرف المجتمع الإغريقي خلال القرن 7 ق.م تطورا اقتصاديا مهما، تمثل في التحول إلى النشاط التجاري والصناعي بدل الاعتماد على النشاط الرعوي والفلاحي. وقد رافق هذا ظهور العملة النقدية. ومعلوم أن التعامل بالنقود يساعد على تطور الفكر التجريدي بالقياس إلى المقايضة التي ترتكز على ما هو حسي.
– عوامل سياسية : وتتمثل أساسا في الانتقال من حكم النبلاء، أي الأوليغارشية « oligarchia » أو حكم الأقلية، إلى الحكم الديمقراطي الذي تجسد في نظام الدولة المدينة التي عرفت مناخا سياسيا وفكريا سادت فيه حرية التعبير والجدل والحوار، الذي كان يتم أساسا في الساحة العمومية –agora – التي توجد في قلب المدينة – الدولة.
– عوامل ثقافية: تمثلت في ازدهار العلوم الدقيقة كالرياضيات وعلم الفلك، لاسيما أن الفلاسفة الأوائل كانوا علماء أمثال طاليس وفيتاغورس. كما نسجل هنا انتقال الفكر اليوناني من الميثوس mythos إلى اللوغوس logos؛ أي من التفكير القائم على الأسطورة إلى التفكير القائم على العقل. فضلا عن انتشار الكتابة الأبجدية، وإشاعة الثقافة بين عموم الناس؛ وهي كلها عوامل ساعدت على نمو فكر فلسفي قائم على الاستقلال والبرهنة والنقد.