الديموقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة ثقافة العنف

ثقافة العنف في المجتمع العربي ..
سمير التقي

أمسى العنف خبزًا يوميًّا للإنسان المعاصر. فهل هذا العنف جزء من الطبيعة الإنسانية؟ هل هو فطرة كامنة في أصوله الغريزية؟ تضاربت الآراءُ حول أصول العنف، بين قائلين بغريزية العنف (لورنتس) وبين قائلين بأنه صفة مكتسبة (سكينِّر). وتعود جذور هاتين النظريتين إلى الخلاف بين المنظِّرين والعلماء منذ عصر النهضة؛ ثم إلى الخلاف بين المناهج التقدمية، التي كانت تقول إن «الرذيلة» نتاج للظروف الاجتماعية، وبين المناهج المحافظة، التي حاولت أن تثبت أن التنافس بين البشر يعود إلى غريزة متأصِّلة لصالح كمون العنف في أعماقهم. إلا أنه في بداية القرن الفائت تمَّ التوصل، عبر منجزات التحليل النفسي الفردي (فرويد) وعلم النفس التحليلي التجريبي (يونغ وفروم)، إلى حسم الصراع، ليَثبُت، بالتجربة، أن العنف ينقسم إلى نوعين:
أ. العنف الدفاعي: ويشترك فيه الإنسان والحيوان؛ وهو عنف غريزي يهدف إلى الحفاظ على النوع.
ب. العنف الخبيث (حب الإفناء): وهو عنف يختص به الجنس البشري؛ وتندرج فيه السادية وحبُّ الموت والتدمير. وهذا النوع من العنف مكتسب حتمًا؛ إذ من الممكن إثارته، والتأثير عليه، سلبًا أو إيجابًا، بواسطة العوامل الثقافية.
والعوامل الثقافية التي تؤثر في العنف «الخبيث» (التي سنكتفي بذكرها) هي:
– الظروف الاجتماعية المحيطة (الإحباط الاجتماعي)
– الثقافة المكتسبة عبر مراحل الحياة المختلفة (تجربة التعليم بالتعذيب)
العنف بين الحيوان والإنسان
عنف الحيوان دفاعي، ناتج عن غريزة حبِّ البقاء؛ وقد يتبلور إلى عنف بهدف الافتراس عند الحيوانات اللاحمة. وهو يظهر من دون عوارض الغضب؛ ويزول التوتر العدائي عند الوصول إلى الهدف (الطعام). وهذا العنف ليس مدمِّرًا ولا ساديًّا. أما الإنسان – وهو حيوان غير لاحم في الأصل – فالعنف عنده قائم بذاته وتلقائي ومدمِّر. وتدل التجارب أن الحيوان الذي يقع في الأسر ويخسر حريته، ليوضع في محيط ضيق وفي بيئة غير بيئته الطبيعية، تظهر لديه ميول إلى العنف مماثلة للعنف العبثي المدمِّر عند الإنسان. الرأي العامي يقول إنه كلما كان الإنسان بدائيًّا زاد ميلُه إلى العنف. ولكن الباليونتولوجيا تقول إن الإنسان العاقل، الذي أمضى 99% من حياته في مرحلة الصيد، منذ نحو خمسين ألف سنة مضت، لم يكن يقتل ليستمتع بالقتل أو بالقسوة والعنف، ولم يكن مدمِّرًا ولا عنيفًا، ولم يكن يمثِّل بالضحية الحيوانية إلا بغرض الغذاء والكساء، ولم يكن يتسم بسلوك عدائي بين بني جلدته، بل كان يقتسم الطرائد معهم. كان المجتمع البشري آنذاك مسالمًا بشكل عام: لم تكن حتى الكهوف محمية من احتمال اعتداء الإنسان؛ ولم تَظهَر التحصينات الهادفة إلى الدفاع ضدَّ عدوان البشر إلا في مجتمع الزراعة المتقدِّمة، أي بعد انكفاء المجتمع الأمومي وسيطرة الذكورية على الحضارة. ولا توجد في اللوحات التي رسمها الإنسان البدائي كلِّها أية مؤشرات على حروب ومعارك أو على قتل للإنسان، لأيٍّ سبب كان. ويتفق علماء النفس على أن الدوافع المكوِّنة للشخصية الثقافية ترتكز إلى عامل الحرية وتحقيق الذات أساسًا. وتتفق التجارب في مجال علم النفس التجريبي على أن الإحباط والقهر وقمع الحرية هو الأساس في الاغتراب والعنف، في حين لا تلعب العوامل الغريزية، مثل الشبع من الطعام والجنس، إلا حيزًا ضئيلاً جدًّا من وعي الإنسان المعاصر ودوافعه العنيفة. وتتأثر هذه الدوافع بالثقافة، فتحرِّضها هذه وتوجِّهها توجيهًا سليمًا أو مرضيًّا. العنف لدى البشر، إذن، ليس من طبيعة الإنسان، إنما هو خاصية اجتماعية نَمَتْ الحضارة ونشأت معها؛ وهو ليس، بالتالي، سلوكًا مرضيًّا فرديًّا لإنسان بحدِّ ذاته. وإن اعتبرنا أن شخصية الجماعة هي ثقافتها، يكون العنف، بالتالي، فعلا ثقافيا مكتسبا.

ثقافة العنف
هل لدينا عنف في مجتمعنا؟ إن أجبت، لن يكون لبحثي أيُّ معنى! يحاول المجتمع المعاصر وثقافة العولمة فَرْضَ قيم مصطنعة، مسبقة الصنع، لكي يكتسب الإنسان معنًى لحياته: على الإنسان أن يكسب الكثير، وأن ينجح، وأن يستهلك على الموضة، ضمن الأُطُر التي يفرضها الاندماج الاجتماعي. وسواء نجح أو فشل، سرعان ما يقع في الإحباط، ليكتشف أنه افتقد حريته، من دون أن يحقق أيَّ مغزًى حقيقيٍّ، وافتقد، بالتالي، دوافعه العاطفية؛ فيظهر لديه شعور عميق بالقهر والملل، يتجلَّى في ميل شديد نحو العنف والتدمير. يتفق الباحثون أن العنف الاجتماعي يتخذ أشكالاً متنوعة، مباشرة وغير مباشرة، خفية ومعلنة. لكن ما أريد تأكيده، منذ البداية، هو أن العدوان الخارجي ليس مسوِّغًا لثقافة العنف؛ بل إن ثقافة العنف داخل المجتمع هي تأسيس للهزيمة أمام العدوان الخارجي. فلقد حان الوقت كي نتنبه إلى أن التنمية ليست مجرد تنمية للأرقام، بل هي، أولاً وأخيرًا، تنمية للإنسان. إذ يضاف العنف الإنساني، في مجتمعاتنا العربية، إلى تعنيف الطبيعة وقهرها، حيث تقوم ثقافة العنف على منظومة فكرية مركزية عقائدية وأخلاقية تستند إليها.

العنف الفردي
ونبدأ بالعنف الفردي، لنجد أنه كان دائمًا ردَّ فعل على عنف اجتماعي واقتصادي. وبين الفعل وردِّ الفعل، بين الفردي والاجتماعي، يدور المجتمع في دوامة. والنتيجة عنف متصاعد من الفرد، إلى العائلة، إلى أرجاء المجتمع كافة، ليرتدَّ عنفًا اجتماعيًّا باسم القيم والعقائد والأخلاق. يقوم العنف الفردي على ردِّ فعل تواحدي، حيث يتوحد identify الفرد أو الجماعة مع نموذج لفرد زعيم أو معلِّم أو مربٍّ، مسوِّغين العنف بالإصلاح. ويتَّسم المجتمع الذي يهيِّئ لثقافة العنف بجملة من المظاهر:
– انتقال السلوك والعادات من جيل إلى جيل آخر انتقالاً جامدًا؛
– تحكُّم العادات والتقاليد بالسلوك البشري، لا القانون والتربية والعلم[3]؛
– نظام اجتماعي تحكُمُه مراتب عائلية ودينية واجتماعية واقتصادية جامدة.
وإذ تتأسَّس ثقافة العنف على الاستلاب الاقتصادي والاجتماعي، فإن هذا الاستلاب يولِّد، بدوره، استلابًا انفعاليًّا. فالشخص الذي يمارس العنف يقيم علاقته مع الآخر على كذب كبير مغلَّفٍ بالقيم وباللافتات الكبرى، فيردُّ عليه الآخرون بكذب مضادٍّ، مشبع بالأصولية وبالنفاق: كذب في الحياة، كذب في الزواج، كذب في الصداقة، كذب في ادِّعاء القيم، كذب في الرجولة، كذب في المعرفة، وكذب في الإيمان والتجارة والسياسية، إلخ. علاقات زائفة، ضلالية، لا حوار فيها، بل عنف وعنف مضاد، وكذب وكذب مضاد، ليتحوَّل العالم إلى زيف يلعب كلَّه لعبة العنف. وويل – حينئذٍ – لذوي النوايا الطيبة!
وتنطوي ثقافة العنف على جملة من العُقَد الاجتماعية، نحاول تحديدها كما يلي:
-عقدة النقص من فقدان القدرة على المواجهة: الخوف من شرور الآخرين، الخوف من عدم التكافؤ الاجتماعي، الخوف من السلطة المنشغلة والمهمِلة لفردية الإنسان.
– عقدة العار: فالإنسان، في ظلِّ ثقافة العنف، يخجل من ذاته؛ يعيش حياته عارًا وجوديًّا متأصلاً. وهو في حال دفاع دائم من احتمال افتضاح أمره وعجزه وبؤسه. يقول: «الله يستر على حريمك!» فـ»السترة» هاجسه المرضي، يخشى أن ينكشف، فلا يصمد أمام الحقيقة.
نرجسية في الظاهر وتفكُّك في الداخل! حيث يُسقِط الفرد مفهوم «العار» على السياسة، عبر التمسك بالأمجاد التليدة، ليخفي تقهقرًا وتراجعًا تجاه الواقع الظالم؛ ويُسقِط عنفه على المرأة، لتصبح موطن «العورة» والضعف والعيب والتقديس في آنٍ معًا! ويتجلَّى ذلك بسلوك التباهي والاستعراض للتستُّر على عقدة العار الناجمة عن ثقافة العنف؛ فيسري العنف، ادِّعاءً وتبجحًا وخداعًا، لينتهي إلى قلق وإحباط وسوداوية شاملة، تتكرَّر فيها مأساة الوجود وضعف الإنسان واجترار الزمن. إنه غرق في حزن أسود عميق، لا يتجلَّى إلا بانفجار العنف في مناحي الحياة كافة. وينفجر التراكم الداخلي في الشخص ضدَّ شخص آخر أضعف، يخترعه ليحمِّله وزر قهره. فالإنسان في مجتمع العنف، منذ أن ينشأ، لا يفهم إلا لغة العنف، فلا يكون لديه ردٌّ إلا بالعنف.

العنف في الطفولة
سأنتقل الآن لفكرة أبعد: أين يتركَّز العنف في مجتمعنا؟ إنه يتركز، أول ما يتركز، في الأسرة وفي التربية. فالأم الجاهلة بأوليات التربية، المقهورة أصلاً بالعنف التاريخي الواقع عليها منذ الولادة، لن تستطيع أن تكون إلا حاضنة لثقافة العنف. إنها تشترك مع الأب في نقل نظرة خرافية إلى العالم لأولادها. فالوالدان – والأقرباء عمومًا – لا يجيبون عن أسئلة الطفل، بل يُغرقونه في التخويف والكذب؛ يكذبون عليه حتى لا يشرحوا له أو يغطوا جهلهم. إنهم يخيفونه، ولا يتورعون عن تهديده بالنار والحساب، ليبثوا أعنف المخاوف البدائية لردعه حتى عن أكل فتات خبز وَقَعَ على الأرض! – عنف ثقافي لن يجد الطفل–الرجل مخرجًا منه إلا بعنف مقابل. فبين قدسية الأبوة وحرمة الأمومة يسقط الطفل – باسم «الطاعة» – مهشَّمًا تحت وابل الأوامر والنواهى، فينشأ لديه نظامٌ لمفاهيم الحياة قائمٌ على التسلُّط والعنف والاعتباط. وتعود المرأة لتردَّ هذا العنف هيمنةً عاطفيةً تعويضية من خلال أطفالها، تعويضًا عن غبن لَحِقَ بها باسم «الأمومة المتفانية»، فتغرس في نفوس الأطفال تبعية الحبِّ وحبَّ التبعية، وتطوِّقهم بعوالم الخرافات والغيبيات، فلا يكون لها إلا أطفال منفعلون، مستلَبون للخرافات، عُجَّز. فالأب، حصيلة خرافات أمِّه ومجتمعه وأكاذيبهما، يأتي ليكمل عمل الأمِّ، خوفًا وهيمنةً وتحريمًا: لا قانون، ولا عقل، ولا تجريد، ولا نقد، ولا شروط سليمة للنموِّ الصحي للعاطفة والعقل – ناهيكم عن الاعتداء الجسدي على الأطفال.

التعليم
العنف أيضًا يبدأ في المدرسة؛ إذ تأتي المدرسة لتتابع ثقافة العنف، عبر سلسلة طويلة من العلاقات التسلُّطية، تفرضها منظومة عقائدية مركزية وسلطوية، قائمة على ثقافة العنف والعسكرة: معلِّم عاجز عن الوصول إلى عقل الطالب إلا عبر العنف، تصير الدراسة، من خلاله، «تدجينًا»، والتعليم خصاءً للفكر: فلا تحليل ولا موقف ولا رأي ولا اختيار، بل تعليم تلقيني، يصنع عقولاً راكدة مستلَبة للخرافة. فالعقل التقني عقل فارغ، وهو مستعد لتلقِّي العقائد الجاهزة؛ إنه عقل خرافي البنية، تلتقي فيه الخرافات والروايات. وهذا النمط من «التعليم» سطحي، تلقيني، امتثالي، بعيد عن النقد والجدل؛ وسلطة المعلِّم فيه لا تناقَش، والطالب يطيع ويمتثل. تعليم يعزِّز الانفعال، ويكرِّس التبعية الفكرية والثقافية، ويَحْرِم من استقلال الرؤية وممارسة التفرُّد في الحياة. (من هنا فإن عملية التدجين المدرسي هي في صلب حركات الرفض والعنف المضاد لدى الشباب.) أما المواد الدراسية فغريبة عن الحياة اليومية للطالب: مواد فصامية، نصفها مستورد من خارج المجتمع، ونصفها الآخر مستورد من الماضي. فذاك الذي يلبس لبوس «المعلِّم» يتعامل مع الطالب لفظيًّا وخرافيًّا؛ وبذلك لا يعكس العلمَ ثقافةً، بل يبترُه عن جذوره المعرفية، فيختزله إلى قشرة خارجية تعمِّق الغربة، في حين تبقى لغة الحياة اليومية لغة الأمِّ مشحونة بالانفعال. إن ثقافة العنف هذه تندرج في أرجاء التعليم والحياة كافة، في العمل كما في التدريب والتعليم، وفي العلاقة مع الجار والابن والأب والزوج والأخت. فإما أن تكون متسلِّطًا وإما مقهورًا – وغالبًا ما تكون الاثنين معًا، رازحًا تحت هرم من العنف الهائل. جبرية وقدسية وقَدَرية تسود أرجاء الحياة كلَّها: فأنت إما «مع» وإما «ضد» – في حين أن العصر كلَّه يتَّجه نحو تعليم لا يكتفي بنقل العلم والتقنية عبر القوانين، بل نحو علم مؤصَّل ثقافيًّا ومعرفيًّا.

العنف الاجتماعي
إنني أزعم أن أية ثقافة تقوم على النرجسية، ورفض الآخر، والانغلاق، والارتداد إلى السلف، القريب أو البعيد، لن تكون إلا ثقافة للعنف، تغلق العقل وتحبط التنمية. إنها لا تصدر عن العقل، إذ ترفض العقلانية بحثًا واجتهادًا ونقاشًا؛ بل إنها تعصُّب انفعالي، في محاولة لإجبار الآخر على الخضوع. ولا تخلو من العنف أية ثقافة؛ لكن ما يميِّز وضعَنا هو تراجُع الثقافة المضادة، القائمة على الحوار والعلمانية والانفتاح الفكري والحضاري، لصالح التعصب والانغلاق. بين قهر التقاليد، وقهر الأسرة والعشيرة، والقهر الاقتصادي والسياسي، ترزح شخصية الفرد العربي تحت عنف شامل يمنع تفتحها ومجابهتها لحقائق الحياة والوجود. تنتج لدينا ذهنيةٌ متصلِّبة، محدودة الأفق، حيث كلُّ تجديد وسؤال هو إثْم يستحق العقاب والتصفية، لأنه يزعزع المحرَّمات وحقائق الماضي المهشَّم. فكرٌ أشْوَهُ، وحيدُ الجانب، انفعالٌ مضطرب، وشخصيةٌ مفكَّكة. كلُّ ذلك يولِّد انكفاءً على الذات، وارتدادًا إلى الماضي، تمسُّكًا بالتقاليد، حتى تكاد ثقافة العنف تبدو جزءا من طبيعة الأمور. فالواقع أن علاقة الفرد بالمجتمع يسودها التناقض بين أمل أسطوري وإحباط تاريخي. إن الوسيلة الدارجة في مجتمع العنف هي توجيه العدوانية نحو الخارج عبر التعصب الطائفي أو العرقي أو الديني. ويصير الأمل الأخير للفرد المقهور منصبًّا على منقذ موهوم، يُلبِسُه كلَّ الصفات المضادة لضعفه، وسرعان ما يرتد عنه، كفرًا وعنفًا مضادًّا، ليغرق في دوامة جديدة من العنف. ولعل موقف الإنسان، في مجتمع العنف، من القانون يعطينا فكرة عن تفكُّك شخصيته، حيث لا يكون الاعتداء على القانون محرَّمًا، بل يكون خوفًا من العنف! فالقانون لا يُفرَض إلا على مَن لا يمتلك القدرة على خَرْقِه. ليس هناك احترام للقانون، بل رضوخ وإرغام – ولك أن تخترق القانون إذا استطعت أن تنفد بجلدك! فإن ضعفتْ سلطةُ القانون، وتراجعتْ قدرةُ المجتمع على فَرْضِه، ينفجر العنف انفجارًا مذهلاً، وتنفجر العدوانية الكامنة، ويتعمَّم الاعتداء على القانون، واستباحة الحدود والممتلكات، دون مراعاة للمُواطَنة والجيرة والمشاركة أو الانتماء أو حقوق الإنسان.

العنف في الفكر والسياسة
كلُّ المجتمعات التي قامت على عقائد، لا على قيم للإنسان، غدت فريسة للعنف الاجتماعي، وأضحتْ فيها المؤسَّسة بديلاً عن العقيدة، والطقس بديلاً عن القيمة والمغزى الديني أو العقائدي. من هنا فإن ثقافة العنف في الفكر والسياسة تقوم على عقيدة مركزية توتاليتارية، لا سبيل إلى تقويضها بغير العلمانية. والعلمانية، في القرن الحادي والعشرين، لم تعد تعني مجرَّد فصل الكنيسة أو الفكر الديني الغيبي عن الدولة والتشريع والإدارة والثقافة، بل أصبحت تعني رفض فَرْضِ كلِّ مسبق عقائدي على العقل والإنسان. من هنا فإن العلمانية هي الطريق للتأسيس لثقافة حقوق الإنسان. فأية عقيدة أو مؤسَّسة تضع نفسها فوق المُساءلة والجدال والنقد والحوار ليست علمانية، مهما ادَّعت العقلانية والعلم؛ بل هي تؤسِّس لثقافة العنف والتعصب. وأية جماعة تغتصب أدواتِ الحوار، مدَّعيةً احتكار الحقيقة، بحقٍّ إلهي أو شعبي، لا تلبث أن تُخضِع المؤسَّسة والمجتمع المدني لسطوة مزدوجة: سطوة التقاليد وسطوة الاستبداد. فالضمانة الوحيدة ضدَّ ثقافة العنف هي العلمانية. والعلمانية ليست نفيًا لقيم السماء، ولا لقيم الأرض، بل هي تكريس لعقل الإنسان الحرِّ.

ثقافة العولمة
وفوق ثقافة العنف التي تعشِّش في مجتمعاتنا، يأتينا القصف الثقافي البخس لثقافة العولمة. إن العولمة لا تنقل إلينا القيم التي أسَّستْ لنهضتها: الديموقراطية، والعلمانية، وقيم المجتمع المدني، والمُواطَنة، بل هي تقصفنا بالتفاهة والعنف العبثي والتسطُّح الفكري، باسم العولمة الثقافية. فالعنف الثقافي هنا «عدوان ثقافي»، لا حوار حضارات، وتكريس للتفوق ولمنهج الإبادة الثقافية والبشرية. وما يقدَّم لنا على أنه نظام للسوق العالمية يهدف إلى ترسيخ فكرة الخضوع لضرورات الإنتاجية بالمعايير الغربية، وكأن الاقتصاد ليس إلا علمًا للأشياء، علمًا للتنمية الاقتصادية فحسب. ويبيع لنا إعلامُ العولمة الجنس العنيف والعنف الجنسي بأبخس الأسعار وبالسهولة نفسها التي يبيع بها أهم أخبار المجاعات والحروب. وإلى جانب العنف المباشر، تقوم ثقافة العنف العولمي بتكريس مفاهيم البطولة والخلاص الفردي: «اقتل، واضرب، ومزِّقْ، وانفذ بجلدك!» عنف فردي يكرِّسه عنف جمعي، ويركَّب فوقه عنف كوني باسم العولمة والأمركة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة