فريد الزاهي
غداة أن حطت رجلاي قبل أيام، بصدفة غريبة، في وسط فيينا، واجهني ملصق يعلن عن قرب نهاية معرض الفنان النمساوي المعروف غوسطاف كليمت الذي كنت قد زرت له معرضا بمتحف بوبورغ من بضع سنوات خلت. كان هذا المعرض عبارة عن ممتلكات صاحب متحف ليوبولد ومؤسسه. فبالإضافة إلى بعض الأعمال الزيتية الكبيرة، سعدت بالوقوف على شغف كليمت بالرسم، وتوجهه بالأخص إلى رسم الجسد الأنثوي في كافة الأوضاع المثيرة والشبقية، بنظرة مواربة ومن غير فضائحية، بخطوط تكاد أحيانا تغوص في الورق المصفر حتى لتكاد العين لا تراها…
كان متحف ليوبولد ذو الطوابق الثلاثة يعلن في الآن نفسه، وفي كل طابق، عن معرض أكبر بكثير من مجموعة ليوبولد عن كليمت. كانت هذه الأضمومة من المعارض تضم المجموعة الباهرة للبليونيرة النمساوية هايدي هورتن التي تجمع بين أعمال ماتيس وشاغال وأندي وارول وغيرهم؛ ومعرضا استعاديا شاملا للفنان التشيكي المعاصر زوران موزيك الذي ينتمي لمدرسة باريس، بعوالمه المعتمة، ثم المعرض المثير لمجموعة لْيوبولد للفنان النمساوي المنبوذ والغامض إيغون شييل Egon Schiele.
وبقدر متعتي بالمعارض الثلاثة الأخرى، والتي اكتشفت فيها لأول مرة أعمالا غير معروفة (على الأقل مني شخصيا) لأندي وارّول، بقدر ما كانت دهشتي كبيرة باكتشاف العالم الغريب العجيب لإيغون شييل، هذا الفنان النمساوي الذي كان تلميذا لكليمت، وتأثر به، وحظي بدعمه وتشجيعه، من غير أن يسير على خطاه طويلا. فإذا كان الأول يعتمد الزخرفية ولا يشوه الجسد إلا بالقدر الذي يبرز عن رمزيته وعمقه، فإن الثاني سيتجرد تماما من الزخرفية لينغمس في غمرة الذات، كاشفا عن عنفها وحدودها ومأساويتها مفارقاتها، ميالا منذ البداية لتعبيرية كشافة عن مفاوز الأنا وغناها وقدرتها على احتضان شساعة العالم.
الذات مرآة لبشاعة العالم
لم يترك غوسطاف كليمت أي أوتوبورتريه عنه. وفي تبرير ذلك يقول: «لا يوجد بورتريه شخصي لي، فأنا لا يهمني أن أجعل من شخصي موضوعا للتشكيل. أنا أهتم بالأشخاص الآخرين، خاصة منهم النساء. لكن حتى في الظواهر الأخرى أنا مقتنع أني لست شخصا مثيرا للاهتمام بشكل خاص. فلا شيء في ما يخصني يستحق الاهتمام. أنا فقط فنان تشكيلي يمارس الرسم يوما بعد يوم، من الصباح حتى المساء». بالمقابل فإن إيغون شييل، الذي اكتشفه كليمت وهو ابن السابعة عشرة، والذي يتقن الرسم كما كليمت، كان من البداية مولَعا برسم شخصه بشكل ساخر وتعبيري أحيانا وبشكل مأساوي أحيانا أخرى.
فبعد أن مارس شييل رسم الطبيعة والمدينة والبادية والأشخاص، وجد في شخصه المباشر مادة أولية لتفجير ممكناته التعبيرية، وفي وجهه مرآة متشظية أحيانا ومقعَّرة أحيانا أخرى يستكْنه فيها شساعة عالمه الباطن. إنه بهذا المعنى يشكل ذاك العمق الهادر الذي لامسه كليمت في النفس الإنسانية من غير أن يقوى على الغوص فيه إلى تخومه القصية. وبما أن كليمت كان يدعوه إلى المشاركة في المسابقات والمعارض التي يشرف عليها أو يكون في لجان تحكيمها، فإن شييل أنجز إحدى بورتريهاته الشخصية الأكثر اكتمالا مضمخا إياه بلمسة زخرفية اعترافا بعرابه وصديقه كليمت.
هذا الانكفاء على الذات والصورة الشخصية كان يمثل انزياحا عن كليمت وتياره، وفي الآن نفسه ضربا من النرجسية التي تمشهد تناقضات العالم في مرايا الذات. إنه لعبة الفنان حين ينجح في توسيع ذاته ووجهه كي يغدو جغرافيا كونية. بهذا الشكل تغدو حركات ووضعة الوجه وألوانه ونوعية نظرته كافية لكي تعبر عما يختزنه وعما يبثه، بل أيضا عما يفيض من هذه الكائنية من نظرة للوجود عموما. فبين السخرية والنظرة المواربة والتلاعب بالملامح نجد أنفسنا أما سينوغرافيا جديدة لم نعهدها في البورتريه الشخصي التقليدي… تكاد خطوط هذه البورتريهات تكون تكعيبية من غير انسياق للهندسية.
فنان ضد التيار…
كان شييل شابا متحمسا للفن الجديد، في بداية قرن كانت التحولات في الحساسيات بالغة الفوران، وكان من الضروري فيها تجاوز الرمزية والزخرفية والانطباعية والبحث عن سبل جديدة لمساءلة هذا الإنسان الجديد الذي بدأت معالمه تتكون قبل الحرب الكونية الأولى. ولأن شييل كان يحمل في مخيلته نموذج الفنان النيتشوي بشكل ما، المحارب في قبيلة الألوان والكلمات، فقد كان يرغب في هدم أصنام الفن التقليدي التواضعي الذي كان سائدا. غير أن هذا المنزع لديه سيتبدّى لديه في لوحات عنيفة يعلن فيها الجسد عن كامل «عورته» ليغدو رائيا ومرئيا.
توالت اللوحات ذات المنزع الإيروسي والفضائحي تعبيرا عن سَوَرات الغوص في التفاصيل التي قلّ من يعرّي مناطقها الخفية. ومن بين هذه اللوحات بالأخص بورتريه الرجل عاريا بالكامل، تبدو تداوير جسده وكأنها تتراقص. هذا الطابع «الوحشي» الذي يمنحه شييل للجسد سنجده أيضا في المرأتين القاعِيتيْن وهما تفغران ما بين فخذيهما، أو في تلك المرأة العارية التي تلامس بظْرها بشبقية وقحة… بيد أن هذه التعرية الكاملة للجسد لا تبتغي إبراز جماله بقدر ما تصور كينونته في مرآة التحولات والتشوهات…وسوف يفرز هذا التمرد في ذروته عن لوحة الراهب وهو يداعب الراهبة. إنها رؤية متمردة كلية على الكنيسة والمجتمع والأخلاق والمواضعات…
وبالرغم من أن شييل (تأثُّراً منه جزئيا بأستاذه كليمت) قد صور أشخاصا وأجسادا كثيرة متداخلة، إلا أنه حرص دوما على تشخيص الفرد أو الزوج فقط، وكأنه يدعو بذلك إلى تركيز عالمه في الفرد. فمن الوجه إلى الجسد المفرد إلى ثنائية الجسد نُلفيه يمنح لنفسه حرية تحويل الجسد إلى عالم ذي خريطة وتضاريس جديدة تفصح عن مكنونات تجعل منها الألوان الغامقة، والتباينات اللونية الصارخة عن فجوات المعنى ومغاوره الباطنة.
إن هذا الطابع الثوري يلتصق ببشرة اللوحة كي يترجم نفسه في الغرابة التي تتم بها صياغة هذه النظرة الصدامية التي تكشط قشرة الواقع، والتي جعلت من شييل فنانا استثنائيا، لا في عالمه التشكيلي فقط بل في حياته أيضا. فلقد عاش الموت بشكل ضمني في لوحاته المأساوية والساخرة، وعاشه كتجربة اجتماعية في فترة الحرب، ليعيشه سنة 1918، وهو ابن الثامنة والعشرين فقط، بشكل شخصي. فلقد توفي أولا صديقه كليمت، فرسم له بورتريها وهو مسجّى على فراش الموت. ثم أصيبت زوجته بمرض الحمى الإسبانية (الناجم عن سوء التغذية)، فرسم لها بورتريها وهي تحتضر. غير أنه أصيب هو نفسه بعدوى تلك الحمى القاتلة، وتوفي وهو يقول: «ستجوب لوحاتي متاحف العالم، بالتأكيد!»… وذلك فعلا ما حدث!
إن لوحات شييل، ونحن نقرؤها بالكثير من الدهشة هنا تبين عن حس جمالي تعبيري معاصر لا يزال نسغه يسري في تربة الفن في تحولاته الراهنة.، إنه بشكل ما ذلك المَعين التاريخي الذي نجد تجارب عربية كثيرة تمتح منه بشكل ضمني أو علني، كأعمال المغربي محمد الإدريسي، وأعمال العراقي الكردي سيوران باران، وبشكل مازج بينها وبين لوحات كليمت، أعمال السوري آدم سبهان… وكأننا ننصت لموريس بلانشو يهمس لنا: «كل شيء تقريبا قيل أدبا وتشكيلا، ونحن لا نفعل اليوم سوى إعادة صياغته بشكل مغاير!»…