إتجاه مَعرفي لطمأنة الجنون
قيس مجيد المولى
عندما واجه فوكو معناه في معنى الخطاب ضمن إبتكارات العبقري المجنون وما تقوم عليه الفلسفة، وقد أدرج ضمن نظرته تلك مواجهات هيبوليت وهيجل وفيخته والبداية المطلقة للفلسفة وكيركيغارد ومشكل التكرار والحقيقة، ولعله أراد التأكيد أو بالأحرى الكشف ما بين ما هو حقيقي، وما هو خاطئ، وقد إستعان بخطاب الشعراء الإغريق في القرن السادس ووصفه بأنه الخطاب الذي يحظى بالهيبة والتقدير.
الخطاب(معنى- شَكل- منظومة )
ولأنه يحظى بالهيبة والتقدير فمن الجدير الخضوع له كونه يتصف بالعدالة على مستوى القول والتطبيق، كما أن هذا الخطاب هو جزء من مصائر عامة الناس وهو ذو معنى وشكل ومنظومة، وهناك ما يراد التعريف به كونه السر الخفي الذي يحمل معداته الضرورية.
وفي الشعر تجد ذلك الخطاب الذي يرتكز على قاعدة معلومات المخيلة وصراعها المتكرر في الفهم الشامل لحركة الأجزاء وبناء سلسلة الكلية، وهي علاقة لا يتدخل الزمن المحسوس بها ولا المكان المتخيل من وصفه، إنما ما يحمل المعنى الخفي والذي يعطي للخيال مظاهر تخيلية جديدة منها ما يظهر من الصور الساخرة لتتكون عناصره التأثيرية في النص الشعري، ولو كان كسباً على صالح الوضوح ضمن العبث بالمفردات :
وعكس النور فوق المائدة،
حينَ أمتدت لألاء جواهرها
وقد انسكب من علب ساتانية ثراً غزيرا
وفي قوارير من عاج
وزجاج ملون
في ذلك الضوء المكتئب كان يسبح دولفين منحوت ،
الدفق الخطابي
يمضي ويشير فوكو الى القضايا الخيالية وهي التي تستجيب الى متطلبات معقدة وثقيلة وهناك فرق بين ما يصح منها كاتجاه معرفي وبين من ينتمي إلى الخيال المطلق الذي لا ينعكس كأثر ما من حقيقة ما.وتشكل التجارب النفسية واحدة من إنتظام الدفق الخطابي وتهيئة الإكتمال الحسي المتجانس ضمن وحدة (الخطاب – النص) والمحول من طبيعة حركةٍ ما وإلتقاط لشيء ما وإيقاع مأخوذ من إختلالات في قاعدة عاطفة ما.
خطاب فوكو- أليوت – بارت
ومثلما يرى فوكو في الخطاب المسند من قاعدة مؤسساتية، يرى إليوت في الخطاب الشعري بأن مُنتِجه – وهو يسميه الشاعر الناضج – يجب أن يجمع بين أشد العقليات قدماً وأشدها تمدناً، أي أن هناك إحساساً ما وبدرجة ما بالعصر بعناصره وبطبيعته وبجوهره لتحقيق ما يوصف بالإكتمال عبر القبح تارة وعبر الفزع تارة وعبر الجنون تارة أخرى:
تشق الحمامة في هبوطها الهواء
بشعلة من رعب يتلظى
وألسنتها تعلن
عن دفقة من الخطيئة والفزع
والأمل الوحيد
وما عداه فهو يأس
يكمن في اختيار هذه المحرقة
أو نلك
ليتم التكفير من النار بالنار
الخطاب خارج خطابه
في إتجاهات النص كخطاب وضمن هذه المساجلة يفتتح بول ريكور معرفته بتسمية النص بأنه: كل خطاب يتم تثبيته بواسطة الكتابة، والكتابة تأخذ صيرورتها وبناءها من نمطية اللغة المستعملة واللغة المستعملة يبلورها الأسلوب المستعمل ، والتباين في الأسلوبية تعني المغايرة في إيصال النص بين خطاب وخطاب آخر ليحل المتلقي بدلا من الخطاب ويأخذ بدور الراوي للسّرد النّصي.
التفسير والتأويل
يرى دي سوسير:
أن اللغة تحقق بحدث مرتبط بخطاب ليتم كشف إنتاجية ذلك الخطاب الخاص،ولذلك فهي باعتقادنا تقدم عروضها من خلال بُنى سياقاتها التتابعية التي تربط بعضها مع البعض لتأسيس قاعدة للتفسير تكون مرتكزاً كقاعدة للفهم، تستند في ذلك الى قدرات المتلقي في صياغة خطاب جديد في أثناء استرساله بالقراءة على وفق خصائصه التي تُنظم في لحظة معينة.ولا شك بالعلاقة القائمة ما بين التفسير والتأويل فمن خلال منظومة الفهم يستطيع المتلقي خلق منظومته التأويلية أو التفسيرية ويبدو أن هذه احدى مشكلات النص وصعوبة اليقين من إدراك الوسط الظرفي للخطاب ومنها سلطته ولذته ورسوخه والعمليات الإستبدالية داخله أي قدراته التكيفية مع العالم المُخاطب الذي سيصبح بعد الكتابة عالماً خارج خطابه بعد أن يحل النص محل الكلام.
المعنى ومستوى الخطاب
إن كل ما يجري هو شكل من أشكال التوسع في إعادة الجزئية للفكرة.. هذه الجزئية التي أحيانا تُفتقد في أثناء الإسترسال في نقل الكلام إلى اللغة في الوقت الذي يرى الكاتب النص قبل الكتابة.. يرى رموزه وإشاراته ومعرجات حروفه ومميزات كل حد فيه فأحيانا تكون الفكرة صورة وأحياناً تصوراً وأحياناً جاهزة ومتاحة وأحياناً منضوية تحت سطوة عرض رمزي أو تحت سطوة ألاعيب العقل.
والنص يقوم على سمات بنيوية وعلى مفاهيم مرجعية والقدرة على إنجاز هذه المفاهيم ،ومقابل ذلك لا شك من وجود ثقل فلسفي يقف حائلا دون شغل النزعات العشوائية حيزا في مساحة النص ،
التفسير والفَهم
إذ أن عملية التفسير أو الفهم لابد أن تتأثر أو قد تستعير الموروثات أو المعارف أو المؤثرات النفسية بحسب تأثيرها في تكوين المرء وعمق ثقافته وقبوله للجديد من النتاج الفكري والأدبي.يشير ريكور وضمن نظرية التأويل عن إدراك الخطاب وفهمه بوصفه أي الخطاب بكونه معنى ،والمعنى هنا بتقديرنا مايقدم على أساس محتوى الخطاب وما يحتويه ومايبتغية مُنتج الخطاب ضمن مرجعيات لغته وقدرة المخيلة ورموزه ومكثفاته الفلسفية لكي لايبدو الخطاب مترهلا فاقداً لأهميته الجمالية وقواه المنتجة وفي الوقت نفسه مُعبرا عن هوية صاحب الخطاب ،ولاشك وبحسب رأي ريكور أن للمعنى مظهرين المعنى المحمول من قبل قائل الخطاب والمعنى الذي ينقله الخطاب نفسه ،ويؤكد ريكور وضمن هذا المنحى على أهمية وظيفة الهوية وهي أحدى الوسائل التي يستدل من خلالها على ما يعنيه صاحب الخطاب في خطابه مادامت الكتابة مشروعا للإنفتاح على الذات وعلى العالم الخارجي
أن فلسفة ريكور تتسع لتشمل أغلب الفروع المعرفية وكذلك إقتراب دراساته من الخطاب الذي يأخذ شكلا فلسفياً .
الحدث اللغوي
إن الخطاب بالذات هو الشيء الذي نضعه في مركز التأمل، والتأمل هو نشوء أولي لاستدراج الفكرة، والفكرة في ولادتها نشوء أولي لمعرفة اتجاهاتها وضمان تطويرها ضمن أفكار أخرى، وهي قابلة أيضا لأي من الألفاظ أي قبولها لأي سر من أسرار اللغة، ويقيناً أن التطهير يبدأ من إدراك الغاية في الوهم، ولا يكون هناك أي اختلاف في إيقاع فلسفة ما ضمن غاية شعرية، مادام القصد من البناء في الخطاب الشعري قصدا جمالياً يعبر عن غرض كامن وراء أي شكل من أشكال النزعات الشعرية.ويشير ريمون بارت الى جانب آخر من جوانب الخطاب حيث يراه بارت حدثاً لغوياً كما جاء في دراسته (التحليل البنيوي للنص ) أي له قواعده ولسانياته وهو أيضا تخليص المعنى مما هو نسبي ومتغير وهذا يندرج ضمن التفسير الفلسفي للخطاب .