* المؤتمر الفكري المرافق لاجتماع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب (ثقافة التنوع في مواجهة ثقافة العنف)
*•بعد انقطاع عقدين تحتضنهم بغداد لتبقى قبلة الأدب العربي
جمال ناجي
حين صاغ الاميركي»هوراس كولين»تعبير التعددية الثقافية في عشرينيات القرن الماضي ، لم تلق فكرته تلك قبولا في حينها ، برغم انها عبرت بدقة عن الواقع الثقافي والاجتماعي الاميركي ، الذي كان يحتاج الى من يجترح التشخيص المناسب له . الان يتبين ان التعددية الثقافية مسؤولة الى حد بعيد عن الاضطرابات واعمال العنف بين المجموعات الاثنية في البلد الواحد ، وعن توالد انواع من التطرف ذات الجذور الثقافية ، التي تجد في ممارسة العنف ردا على تهميشها ، و حلا ناجعا لاحتقاناتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. في اميركا القرن الواحد والعشرين ، اتخذ الامر بعدا جديدا قائما على الاجهاض المتأخر لتعددية مقيمة في مجتمعها منذ اكثر من مئتي عام ، فالمسألة باتت ـ حسب التفسير الاميركي الجديد ـ تهدد الامن القومي ولا بد من تقويضها : حدث هذا حين جرد المسلمون من بعض امتيازاتهم وخضعت خصوصياتهم الثقافية للرقابة المشددة. لكن هنالك أربعة نماذج اكثر سخونة وقدرة على الكشف عن وجوه هذه التعددية : فرنسا وبريطانيا والعراق ولبنان. الفرنسيون ، برغم تمسكهم الملفت بحقوق الانسان وبقيم التسامح ، لم يوافقوا اساسا على افكار التعددية الثقافية ، وعدوا ان من يريد العيش في فرنسا عليه ان يكون فرنسيا حتى بالمفهوم القومي ، ما يعني ان فرنسا عملت على تذويب الثقافات ودمج اصحابها قسريا في مجتمعها ، وما المعركة التي خاضتها الحكومة الفرنسية عام 2004 لمنع ارتداء الحجاب وسائر المظاهر المميزة للاثنيات في الجامعات الفرنسية الا واحدة من مظاهر مقاومة التعددية الثقافية ، التي يجد الفرنسيون فيها خطرا على مجتمعهم ، نظرا لما قد يتمخض عنها من افكار وممارسات متطرفة قد تودي باستقرار مجتمعهم .
على العكس من ذلك فان البريطانيين منحوا الجاليات المقيمة على اراضيهم فرص اشهار ثقافاتهم وممارسة طقوسهم وتقاليدهم ، في اطار من التعددية الثقافية التي وجدوا فيها طريقا سلسا للسلم الاجتماعي ، وللتوافق القائم على الحرية الثقافية والدينية ، برغم ان بعض الخصوصيات الثقافية تتعارض مع القوانين البريطانية ، كقمع المرأة ، وتعدد الزوجات ، وشعائر السيخ والهندوس وتطبيقاتها الغريبة عن مجتمعهم. غير ان البريطانيين الان بدأوا يطالبون بتجيير الخصوصيات الاثنية لصالح الهوية الوطنية البريطانية ولو بشكل اجباري ، وباجراء مراجعة لمدى نجاعة النهج التعددي في ظل وجود اعداد كبيرة من الوافدين ذوي الميول المتطرفة ، وما تضفيه القوانين البريطانية من مشروعية على اساليب العمل السياسي والثقافي الذي تمارسه شتى الجاليات على اراضيها .
في الوطن العربي ، يمكن الحديث عن الانموذج العراقي الذي يعاني الان من هذه التعددية دون ان يفصح عنها ، برغم أن الفشل في التوصل الى توافق وطني حقيقي ، قد كشف عمق الشروخ التي أحدثتها تلك التعددية في المجتمع الواحد. صحيح ان الاحتلال الاميركي للعراق أدى الى نتائج ثقافية وسياسية مدمرة لا يجوز تجاهلها ، لكن يجب ان نعترف بان التباينات والاختلافات والمقايضات السياسية التي تجري في العراق الان ، ليست سوى انعكاس مباشر لمتطلبات تلك التعددية الثقافية التي يتم التعبير عنها باستخدام اسماء حركية من نوع : الطائفية ، العرقية ، القوميات ، الاقليات .. المثال العراقي ليس الانموذج العربي الوحيد ، فثمة الانموذج اللبناني الذي استطاع بصعوبة بالغة تحقيق توافقات ثقافية سياسية اجتماعية فريدة من نوعها ، برغم تأخر التوافق على رئيس جديد للجمهورية.
آخر المفارقات التي دعتني الى اعادة تقليب فكرة التعددية ، هو ما قرأته من شعارات لثلاثة من مرشحي انتخاباتنا النيابية الأخيرة ، وهي شعارات تدعو – بعبارات متقاربة – الى»تعميق التعددية السياسية والثقافية»،
وكأنما تم تذويب الفوارق الهائلة بين هاتين التعدديتين المختلفتين تماما. هل التعددية خير مطلق ام شر مطلق؟ المجتمعات الاكثر استقرارا هي تلك التي تخلو من التعددية الثقافية ، او تلك التي تصمم دساتيرها وقوانينها بما يضمن استيعاب كل اشكال التنوع الثقافي ، لكن في إطار الثقافة الواحدة التي تحدد ماهية الهوية الوطنية.
* قاص وروائي أردني