الشاعر مؤيّد الهوّاش في كتابه الشعري (هناء)
نعيم عبد مهلهل
(( اصبحت كالماء يروي نبت ذاكرتي وصرت كالطير يستدفئ بذكراك
وما يزال بنفسي ومض امسية اوحت إليَّ بها في الليل عيناك ))
مؤيّدالهوّاش / قصيدة هناء ص 33 من الديوان
عندما تطل من ذاكرة الكلام لتقرأ هاجس الشعر في حياة رجل يسكنه الألهام وقد غادر عالمنا منذ نحو عشرين عاما ، تجد ان قلبه لم يزل ينبض في ديوان شعر هو قافية الاهداء الرائعة لزوجته واولاده الاثنين .
مؤيدالهوّاش الشاعر السوري يهدي قمر حياته وأم ولديه الدكتور ( هناءالهوّاش ) تسلسلا نغميا من سمفونيات الشعر حيث يحاول ان يجدد في ديوانه الشعري والذي اهداء الى ظلال حياته الطويلة مع هناء والذي حمل اسمها عنوانا ( هناء ) والصادر عن دار نون السورية 2017 . يمثل في لغته وعطر غرام القصيدة في جنباته وشوارع مودة الكلمات وموسيقاها المشعة بأجراس صوت حنجرة الشعر وصدى ايقاعات نبض قلبه ليثبت لنا الشاعر السوري في هاجسه وخواطر روحه عبر أجفان السيدة التي عاشت معه كل هذا العمر ،ظلال لامنيات موسيقى قلبه وهي تشاركه حلم العيش عبر اصول عائلية مشتركة وعريقة ولها مكانتها في التأريخ السوري الوطني والاجتماعي. حيث امتد حكم اجدادها الى مسافات شاسعة ، ليصل بواحدٍ من اجدادها البعيدين ان يكون اميرا على قضاء سنجار العراقي.
يسجل كتاب مؤيّدالهوّاش ( هناء ) صورة ازلية الرؤى التي مسحت باجفان الضوء والكلمة والشعور على باطن الذاكرة الانسانية وصنعت صدي النص الشعري الأول، هذا الذي يمضي الى المنتهي لكي يجد في جمالية اللحظة تجديدا للوجود.
وقديما كان الشعر يوازن اللحظة المطلقة في جعل البشر اكثر اقترابا من الفردوس.وهو ما ظل قائما حتي زمن متصوفة بغداد ودمشق وبخاري والشرود الذي سكن عمر الخيام ليقول:ان لحظة غيبة دائمة لاتعود إلا مع حنان القصيدة.
وكان الشعر بالنسبة الى مؤيّدالهوّاش هو الزهرة التي يزرعها في حدائق تجارب حياته و بفكرة مشعة ونداء منغم مع نبضات قلوبهم فصنعوا صيرورتهم من ذلك الاحساس الكبير الذي مكنهم ليكنوا اباطرة لتشتت الروح المضيئة بالهيام والغرام والتودد. انهم يكتبونه ليكونوا.مغامرين اشداء للتوثب من اللحظة الحارة الي الفورة المشتعلة باثر المكان والزمان والخاطرة التي يصنعها حضور الزوجة القوية والطيبة .وهو ماصنع منه الفلاسفة رؤاهم وحكمهم لخلق المسار المفترض للمشي البشري الصحيح.
حتي قيل ان الفلسفة في رسالتها الخالدة وجدت من الشعر وقود ومضة العبارة الدالة. وربما ما كان ينصح فيه بياجيه مرضاه عندما يصل الي درجة اليأس قوله:اذهبوا الي سونيتات شكسبير.
هناءالهوّاش التي صنعت سمفونيات مؤيّد الشعرية هي طبيبة ايضا لكنها جعلت من تجربة زوجها وبوحه هاجسا ليكون ظل الشعر حارس الفنار والابدي المهيمن على شواخص الزمن.وكان منذ ان هبطت حواء بمحفة الدمعة مع بعلها ادم ع يمثل الحاجة لتكون رغبة نمت بعد حين لتصير رسما علي جدار كهف ثم حجرا لبناء بيت ثم صولجانا لتنصيب ملك ثم كاسا نذريا لاقامة قداس في المعبد.انه اذن بدء التحولات والهاجس الاول لصناعة المعني في الشعور.وكان اهل سومر قد تركوا ماثر وجدانهم علي الالواح على شكل قصائد فولدت الاساطير ومضت تبشر برؤيا الحاجة للوجود القائم والخالد.
من يقرأ هواجس مؤيّدالهوّاش وهو يسجل في لغة من البوح والتعبير الموسيقي المسكون بأيقاع القافية والتي تنتهي عند نبض شريكة حياته الشعر يسعي لتبرير خلق الوجود بهذه الفنتازية المتعددة الصور والسابحة في أنواء فضاء نتعلق به كبندول دكة تلك البيوت العريقة والقديمة في ايواناتها الواسعة ومضافتها العريقة حيث رأيت الكدتورة هناءالهوّاش تضع لها صورا مؤطرة على جدران عيادتها في مدينتها الالمانية زولنكن حيث تعيش منذ ان فارقها ظل حياتها الحنون الشاعر مؤيّدالهوّاش وترك لها وردتين من عطر ازمنة الذكرى والكتاب الشعري هما ( عبد الهادي وبوسي ) وكأنه في صناعة مدائح روحه لملهمة حياته يشدنا إلى نقطة الثبات سوى قانون الجذب، وهو (أي الشعر) صانع ماهر لما تريد أن تنتجه دواخلنا المكونة أصلا من مجموعة أحاسيس قابعة في زاوية ما وتنتظر لهذه الوثوب إلي الضوء حيث يتنظرها عنوان عريض لشاهدة قول يطلق عليها اصطلاحا (القصيدة).
يشغل الشعرفي كتاب ( هناء ) مساحة الذهن دون تواجد كتلوي أما هو مجرد رؤية لتخيل مشهد أو وقيعة أو ردة فعل إزاء ما نتعرض له، وهذا الأشغال لا يتواجد عند الجميع، أنما حافز التملك متوارث بقدرية طبيعية تنمو مع الموهبة والمثاقفة وهناك ما يدعوه أرسطو (المحفز القادم من العلا) وما يعتقده محي الدين ابن العربي أنه (المؤثر الساطع، وجوده فن، وصناعته جنون، وفي النهاية نحن له بسجود لأنه مصنوع وليس مطبوع، ومن صنعه الذي أوجد فينا هذه اليقظة) وحتما هو يقصد اليقظة القدرة الإلهية كما يقصد ذلك الفيلسوف أرسطو.
وعندما نفكك اللغة الجمالية وحسها داخل هذا الديوان الممتلئ بالموسيقى الحسية والرومانسية والانسانية والعائلية نشعر يقينا ان الشعر كصورة لتجسيد وشائج المحبة بين اثنين ( مؤيّد وهناء ) ومن خلالهما الى ولديهما أنما هو يرسي أنماطا من التخيل تتعدد ألوانها وأغراضها ولكنها في النهاية تقع ضمن دائرة الشعاع الإلهامي للخيال البشري ومن خلاله نقدر على استحضار لحظة الغياب والتمتع بما تملك من جمال في يريق المعني وموسيقي الكلمة وفي هذا المدار المتخيل .
من يقرأ في اناشيد الراحل مؤيّدالهوّاش سيشعر حتما أن ليس للشعر وطن برغم أنه أكثر بقعة في الكون تحتوي علي خرائط لتضاريس لا تحصي وبرغم هذا تشعر أن كائنا كالشعر ربما آتي في لحظة بدء كوني من كوكب أخر ليسكن الأرض ويرينا شجن أن يرتقي المرء بوجوده إلي مكان آخر غير هذا المكان المحصور بين قطبين. قطب في الجنوب وقطب في الشمال.
فالقصائد تحمل عمبق الشام ومدن البحر والقرى الجبلية ونايات رعاة بيوت الريف ومدن المنافي التي عاشها في ازمنة حياته في خطوات المهاجر والسفر والتي صاغتها هناءالهوّاش في تجربتها الحياتية ( سوريا ،تركيا ، رومانيا ، المانيا ).
لهذا تشعر وباليقين وانت تقرأ في كتاب ( هناء ) أن الشعر هو ترسيخ روحي وجمالي لحقيقة أن نكون تحت تأثير عطر مشفرة الرغبة للتلاوة وليس القول وتراهم (أي الشعراء) ينساقون لنمط معين من شعور لا يتجانس مع الرابط الحياتي، أي انهم يهيمون بفضاءات تتحرر فيها احساسات الواقع لتبدو شيئا أخر فيه من الهلوسة والارتقاء بالمكان والكلمة الشيء الكثير، انهم يتلون الموسيقي من الأفئدة فيما يتلو الموسيقيون عزفهم من آلات متعددة ، ولهذا كانت روح الشعر تبدو مثل هيجان الجسد حين تتحرر من ذاكرة اللحظة لتنصب كلمات وبحور على الورق ومتى تنتهي مودة التواصل بين الرغبة البعيدة واللحظة الأرضية تنتهي القصيدة إلي خاتمة قد يدخل عليها فيما بعد تصحيح وتعديل وحذف وإضافة لكن لحظة التوهج والخلق الحقيقي تمر ولن تعود. وعندما تعود سيظهر عبق الشعور الاول في صبا هناء وتاثيره على حياة الشاعر كلها ،وهذا مانراه في ديباجة الاهواء الذي تقدم الكتاب عندما يقول :
(( اليك ايتها الطفلة الصغيرة
كلمات لطيفات
سكبتها في خافقي ونحتها في فؤادي لتجنبك غدر الانسان … ))
(الديوان ص9 )
تلك الرؤية اتت كما نصيحة وكما روح عراف يحمل نبؤته من انه سيرحل عاجلا او اجلا وستبقى هي وحدها تعيش حكاية النضال العسير في الحياة ، وربما هذه النبؤة المسكونة في الاهداء هو ما تحقق لتعيش هناء من بعده وحيدة وهي تطبق وصياه بحذافيرها عبر روح هذا الاهداء الذي يقول الشاعر في نهايته :
(( وثقي بأن العقل هبة من الله
فهو جدير بأن يقودكِ الى دروب كلها ورود ورياحين))
( الديوان ص9 )
يمضي الديوان المكتوب بلغة اثراء فصيح وبليغ الى صنع دهشة البوح في لغة من الوفاء والاحتفاء بذكريات ملونة لسنوات عيش مشترك وعلى رؤى واناشيد وبوح وموسيقى ( 45 ) نصا في دفتي الكتاب الذي حمل غلافه المصمم من قبل الفنان خالد الوهب صورة من رسومات الدكتورة هناءالهوّاش وكانها تريد ان تضع عطر روحها بين ثنايا القصائد مادام الكتاب يحتفي بها ومكتوب من اجلها بأنامل وقلم ونبض قلب رجل عاش معها الحياة بكل ازمنتها وتجاربها ومرها وحلوها .
لهذا تتشكل في الكتاب نصوص بوح الروح على شكل نشيد سمفوني معتق بخمرة الكلمات وهو يسجل ايقونة الوعي والروح خلودا لسيدة كانت الحياة معها شهدا ووفاءً:
(( اني اؤمن بك بقدر ايماني بالعطر ..
وبغناء العصافير في الظلمة
اني اؤمن بك بقدر ايماني بالبحر
بالوردة التي تفتحت في آخر الليل ))
(قصيدة خواطر متناثرة ص 11 )
تلك هي المودة التي تصنعها رائية الشوق والوفاء والعشق المقدس ، يصوغها القدر المشترك والايمان ويحاول فيها الراحل مؤيّدالهوّاش ان يضع رؤيا المودة في تأسيس عاطفة ساحرة لتأريخ مشترك بين الاثنين حتى بعد رحيله عن عالمنا الى الفضاء الارحب وسماء الله .
وهذه الخواطر المتناثرة هي من تضع دالية عبق النص الموسوم ( وداعيّة للشباب ) ويكون اهداء النص الى هناء حيث تتشكل الموسيقى في هذه القصيدة رؤية لبوح وجداني غمرهُ الشاعر بشيء من عاطفة حزينة ولكنها تفيض جمالا عن تجربة يعيشها الشاعر مع هناءه وفيها الكثير من الذكريات والامنيات وبعض اهات حزن تداخل الفصول وتقلباتها في حضور هناء وغيابها ،ليسجل لها بقاءها في قلبه كداعية لتجدد الحياة وشبابها :
(( يسافر الصيف في عينيك يتركني …..على نيوب خريف لم يزل نهما
أيرجع الصيف والفودان من لهب ….. والقلب صمت رماد ودع الضرما
ايرجع الصيف والخمسون مطبقة ….. عليّ لا رأفة تبدي ولا ندما ))
( قصيدة وداعية للشباب ص 12 )
وهكذا تشعرك هذه القصيدة بتداخل اللهفة بين قلب مؤيّد الشاعر والزوج وبين قلب هناء الزوجة والالهام . صورة تجدها تتفن في التعبير عن تلوين المودة ومناشداتها الشعرية لرجل ابقى وردة وفائه لاميرته على شكل كتاب شعري يؤطره ابتسامة وحنان واشواق ولديه هادي وبوسي اللذان عاشا معه لحظة عيد الام ،فكتبهما على شكل قصيدة لثلاثية وفاء تسكن في قلبه واسماها ( هدية عيد الام / ص 14 من الديوان :
(( أمي ..سنعود يوما يا أمي ..
الى ملاعب الطفولة والنسرين
سنعود لنغفو على وشوشات السنابل
أمي ياخارطة عشقنا المقاوم
حقولك مساحة حبنا وذاكرتنا
يا مدينة القلب ))
مدينة القلب تلك هي من تضع الرؤى والحنين لجمالية تلك اللهفة السحرية التي تسكن موهبة ومخيلة الشاعرالهوّاش وهو يحول خواطره ومشاعره الى اناشيد شعرية تجعل من وجه هناء لوحة تزين حيطان الذكريات بتألق روح حياة كانت تضم اشجان عائلة سعيدة لكن آدم غادر حياتها وابقى حواء وطيرين من طيور الحب هما هادي وبوسي.
بين ثلاثية القلب هذه يطوف وجدان الشاعر وموهبته واحساسه فتشعر معه أنه يبقى يشيد عاطفة مسكونة بالحنين الى هنائه حتى وهو في قبره ، واعتقد ان قصيدة وتريات في الصفحة 24 من الكتاب تضعنا امام البوح الذي يسكن في ثنايا موهبة شعرية جميلة تثقفت في امهات الكتب وتعودت على حياة عائلية عريقة الثقافة والتقاليد ومنذ نعومة اظافره كان يشاهد في ديوان والده كتب التراث والتأريخ والفلسفة واللغة والتوحيد فتعود على قراءتها منذ ايام المدرسة الاولى ومع القراءة نمت موهبة الشعر لديه واحس انه يستطيع ان يعبر عن المكنون ،وحين وجد في شبابه زهرة حياته ( هناء ) استطاع ان يمنحها الكثير من عاطفة الرؤية الشعرية ،ولهذا كانت وترياته تهتز اليها في كل مرة لتشكل بعض عاطفة العطر وهو يعيش مودة حلم روحه وضفته الاخرى ،تلك المرأة التي استمدت منه قوتها ونجاحها وتفوقها العلمي لتكون مفخرة لبلدها وعائلتها في بلاد الاغتراب ويشاركها في صناعة هذا الفخر ولداها.
قصيدة وتريات اتصلت بخيط من سر عاطفة الوجدان في مديح آدم لحوائه ، ولهذا عندما تقرأها بعناية ستجدها مليئة بعبق موسيقى الروح كما صلاة الناسك في وجدان ظل يعشقه عبر ادعية الشعر والمناجاة .
لقد نجح الراحل مؤيّدالهوّاش وهو يرينا قدرته في منحنا لذة السماع والتأمل لتشكيل الصولاة الشعرية وجماليتها ونحن نعيش معها لحظات وجدانية عميقة تعبر عن اعتزاز الرجل بالمرأة التي عاش معها لحظات الحب والوفاء والخلف الصالح.
صورة قصيدة وتريات هي القرين الذي نختتم به جزءنا الاول في دراستنا لهذا الكتاب الشعري الموسوم ( هناء ) وقد ايقظ فينا الرغبة لنمضي ثانية مع قصائده وهو يحاول ان يوقظ روحه الساكنة في رقدتها الابدية ويجعلها تطوف في الامكنة التي تواجدت فيها هنا في ارض حماة او الشام او محطات هجراتها المتعددة لتنتهي بها الحياة طبيبة معروفة في مدينة المانية صغيرة وهادئة.
عالم مؤيّدالهوّاش هو عالم الرؤى والرؤيا لرجل عرف ان يوظف موهبته الادبية وثقافته وموقعه الاجتماعي والوظيفي ليكون سادنا في معبد الذكرى الذي شيده من اجل امراة عاش معها في ثنايا الحلم والعاطفة والامومة والابوة فكان هذا الديوان الشعري يتحدث في فصل اول عن عمق الوجدان المحسوس في هيبة وثناء اللغة الوجدانية التي اهداها الزوج لزوجته وعرج بها عند مواطن الشوق والحنين حتى وهو في صمته البعيد الذي فارق فيه سيدة البيت منذ نحو عشرين عاما.
وتريات هي خاتمة الرؤية الاولى التي نكتب فيه عن كتاب مموسق بحس عاطفي جميل كتبه الراحل مؤيّدالهوّاش ليثير فينا متعة القراءة الشعرية وهو يكتب واحدة من معلقات الوفاء والحب من رجل للمرأة التي احبها وعاش معها اجمل سنوات عمره:
(( وأظل اشكو طول ليلي والنوى وأظل اشرح للخلاء ظنوني
قد غرك اللحظ الذي لاينثني إلا بمقتل عاشق مفتون
إن كنت ليلى يا مليحة في الهوى فلتحذري من ثورة مجنون ))
زولنكن في 20 مايو 2018