علاء الماجد
لم نكن نعرف مظفر النواب عندما كنا طلابا في المدرسة الابتدائية ، بالتحديد في الصف السادس الابتدائي عام 1968، لكن مدرس اللغة الانجليزية كان يردد أبياتا من الشعر تثير فينا أكثر ما تثير التساؤل.. هذا الشعر يختلف عن القصائد التي كنا نسمعها لشعراء شعبيين مثل عبد الأمير الفتلاوي والحاج زاير وغيرهم، لكننا عرفنا في ما بعد من أستاذ اللغة الانكليزية الشاعر شاكر السماوي، إن هذا الشاعر الذي أثار في نفوسنا الدهشة والتساؤل هو مظفر النواب. من تلك اللحظة وفي هذه السن المبكرة أصبح مظفر النواب الشاعر الأكثر حضورا في صفحات دفاترنا المدرسية . وعند انتقالنا إلى مرحلة الدراسة المتوسطة، عام 1970، كنا نتحدث عن النواب مع مدرس اللغة العربية عبد الرحمن طهمازي، كان يتحدث عن السياب كثيرا (ويشرح) لنا قصائده ويقول: إن السياب والنواب أحدثا ثورة في الشعر، في فصحاه وعاميته . وفي الوقت الذي حصلنا فيه على نسخة من (الريل وحمد) ، كان ذلك بمنزلة حصولنا على (النجاح) في الامتحانات النهائية، بل وأكثر . كنا نتابع بحلم وردي (فاركونات) الريل المار بـ (حمد) ونستنشق رائحة القهوة المخلوطة بحبات الهيل.
مرينه بيكم حمد واحنه بقطار الليل… واسمعنه دگ اگهوه وشمينه ريحة هيل
وكنا نتحدى الظلام والذئاب مع (صلاح) وهو يتحدى صحراء السماوة عارفا إن الموت هو المصير الذي ينتظره، لكنه التحدي.
المنايا الما تزورك زورها… خطوة التسلم ذبايح سورها
ووقفنا عند جسد (صويحب) المسجى بين نساء أحال الكحل (محاجر اعينهن سحما) وصوت النواب يهدر:
ميلن لا تنگطن كحل فوك الدم .. جرح صويحب ابعطابه ما يلتم
وسافرنا إلى النباعي نبحث عن الحسن والرقة والعذوبة:
وصفولي عنك بالنباعي تفيض .. وتعنيت ليلة ويه الگمر
وصفولي عنك شال منك غيض بستان الورد .. والنرجس الرايج سكر
وهجرنا أيام (المزبن واللف) مصرين على التجديد والانطلاق نحو المستقبل:
أيام المزبن گضن… تگضن يا أيام اللف
وتصدق نبوءة الشاعر وينتهي الدكتاتور وترتفع أعلام الحرية ونرى حياة جديدة لحسن السريع:
أخافن يوگف الهور اعله حيله .. وينشد الموزر عله ابني الزين المعزب
كل گذله رباة الليل .. ويه سهيل مفجوعة.. ومسچهه بنارك يلهلب
رد الماي للهورة .. وغده حمريها يتلاعب لعب
الآن وبعد كل ما ترك فينا النواب من حب للحياة والإنسان وبعد كل سنين غربته الـ 49، وبعد تردي حالته الصحية في لبنان ، تتابعه عيوننا وقلوبنا مع نخيل العراق وقصبه وبرديه ومائه، ولست مبالغا عندما أقول إن الهور وقف الآن (على حيله) يحيي ابنه البار مظفر النواب ويدعو له بالسلامة والشفاء العاجل ، والان يقضي الشاعر وقته بين مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت وبيت صديقه الكاتب هاني مندس، وقد أعياه المرض الذي يفتك بجسمه ، لقد آثر النواب البقاء في عهدة أصدقائه في بيروت على رغم ضيق يده ويدهم، على أن يمدّ يده إلى السلطة التي اختار أساساً أن يكون بعيداً عنها منذ أعوام طويلة، متنعماً بحريته في الكتابة والعيش. ويعاني النواب الآن مرض الباركنسون وضعفاً في الكليتين إضافة إلى الالتهابات والتورم. ويعاني أيضاً صعوبة في الكلام ما جعله في حال من العزلة المرضية، لا يستقبل سوى أصدقائه المقربين الذين يتولون نفقات علاجه.