يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 32
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: كانت لكم علاقة قوية بالشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري وقد جاء الى ذكركم في كتابه ” الذكريات ” المطبوع في دمشق. لاحظنا غيابكم في مهرجان مئويته الذي اقيم مؤخرا في الاقليم . ما السبب في عدم مشاركتكم ؟ هل لكم ان تتحدثوا لقرائنا عن بعض انطباعات لكم عنه ؟ تقويمكم لشاعريته ومنزلته بين الشعراء العرب .
في سؤالك مطالب عدة . سأحاول تحقيقها . وان سهيت عن بعضها فعليك ان تأخذ بيدي اليها ثانية . اما عن العلاقة التي وصفتها بالقوة فما اظنها كذلك بحساب الروابط المعتادة لا اعتقد ان علاقتي تسمو الى هذه الدرجة. هناك كثيرون غيري عاشروه وصاحبوه ولصقوا به فترات طويلة وانا لست من بينهم.
الا انك محق في القول بأنه وصفني بالصديق , وهذه وجهة نظره ولا جدال فيها وهو مما يسعدني ويملأوني غبطة .
اما ما وصفته بغياب لي في مهرجانه . فأن كنت تقصد غيابي جسيما فأظنك واهما . في الواقع اني كنت حاضرا وحضوري كان محض صدفة . جئت الحفل متطفلا متقحما من دون دعوة ومن دون معرفة بموعده . والصدفة وحدها هي التي حكمت . وفي ذلك اليوم كنت اتهيأ للنزول الى اربيل لشغل خاص فطلب مني صديق ان اقله معي الى قاعة الاحتفال , ففعلت وبوصولي الباحة تقدم من السيارة بعض المستقبلين ظنا منهم بأني اقصد الدخول , فأحرجت وخشيت ان يثير انسحابي تساؤلا , فولجت القاعة وافسح لي وقد مضى من الاجتماع شوط ثم ارفض .. وتفرق الجمع واستوقفني عدد من الاصدقاء برهة تبادلنا خلالها التحايا . وبعدها انصرفت .
س: لا اقصد غيابك عن الحضور بل قصدي مشاركتك الفعلية لا شك في ان احدا من منظمي الحفل قرأ ما جاء عنك في ذكريات الجواهري وقرن بين وجودك وضرورة مساهمتك . فأنت واحدا من قلة عرفوه في ازمان متقدمة .
اقول اولا ان افتقادي في هذه المناسبة من امثالك . لا يقلل بطبيعة الحال من شأنها ونبل من كان اول الداعين اليها . فقد كنت وما زالت من تلك الفئة التي تدعو الى التقارب والتعاون الحاضري والفكري والاجتماعي مع الشعوب الناطقة بالعربية . وليس ثمة سبيل اقوم واصلح من الدعوة الى احكام الصلة مع جهابذة العلم والادب واحرار الفكر فيها وبالاخص ذلك الفريق الذي تعاطف مع الكورد في نضالهم الوطني واصغوا بضمير متفتح الى ظلامته وايدوا مطالبه العادلة . وتكريم من اعده شخصيا امام شعراء العربية في النصف الثاني من القرن العشرين . وواحد من فحولها في كل كل زمان ومكان انما هو تكريم لتلك الصلة الوثيقة . بل للعرب انفسهم من جانب شعب غير عربي بغض النظر عن واقع الاشادة بشخصية ادبية خص الكورد والثورة الكوردية وزعيمها بقصائد رائعة .
ثم ان حضوري لا يزيد وغيابي لا ينقص من قيمة المناسبة . فانا لست من المتكلمين المفوهين ولا من الخطباء البلغاء الذين يأخذونك بسحر بيانهم . بل كاتب اخاطب العين لا الاذن . وانا بطول التجربة افتقر الى القابلية على احداث الاثر المطلوب بتطريب السماع وهو الغرض المنشود عادة في مناسبات التكريم والتأيين واحياء الذكر . فأن وجب علي النهوض بمثل هذه التبعة وهي ثقيلة دائما ونادرة فثق انك لا تسمع مني الا ما يدخل الى نفسك السأم وكأنك تصغي الى محاضر يلقي درسا مملا رتيبا .
ولا يداخلني ريب في ان القائمين على تنظيم المهرجان قد احسنوا انتقاء المشاركين فيه . ولا سيما تلك الوفود التي استقدمت من البلاد الناطقة بالعربية من المؤكد انها تليق بقدر المحتفى بذكراه ومكانته . وقد اطلعت في احدى الصحف المحلية على ثبت بأسمائهم وهوياتهم ومجال اختصتصاصهم . وانا اقر لك بقصوري عن سبق معرفة لي بأي من المدعوين هؤلاء خلا احد القائمين بتنظيم الحفل السيد فخري كريم زنكنه . وانا لا اعرفه بين الكتاب او الادباء بل عرفته من قادة الاحزاب العراقية السابقين فحسب . وربما عاد جهلي الى بعدي عن الوسط الادبي والصحفي العربي طوال ربع قرن بصعوبة الحصول على ثمار القرائح الفتية الجديدة من كتب ومطبوعات دورية . ولا يساورني شك في ان القائمين على تنظيم المهرجان قد اختاروا بالدعوة افضل من يمثل الوسط الثقافي في البلاد الناطقة بالعربية , من اديبات وادباء , ومن صحافيات وصحافيين مشهورين معروفين . وها ان المهرجان قد انتهى بنجاح على ما قيل لي . واب كل الى مغناه راضيا بما قدم وقدم له . فلا داعي للافاضة في هذا .
ثم عليك ان تتذكر ان قدومي الى كردستان ووجودي لم يكن متوقعا .ومن هذه الجهة كان للقائمين بالمهرجان كل العذر في اغفال امر ضمي الى مجهودهم لو خطر ببالهم ذلك . الا اني لا استطيع وقد انجر الموضوع الى هذا ان اغفل عن ملاحظة غريبة صدرت من صديق لي اثناء تسكعي بعد ختام الحفل وانا بين تلك الحلقة من الاصدقاء . جاءت الملاحظة نعقيبا على عبارة قلتها عن الجواهري – ربما لم احسن صياغتها . بحيث اعتبرها الصديق وهو من القائمين على تنظيم الحفل – نوعا من شكوى لحرماني شرف المشاركة . اذ رد بشيء من الحدة : ” والله يا اخي اننا نخشى من اندفاعاتك ” . ولم يكن الظرف مناسبا للاستفسار عن قصده . وتركته وانا حائر فيما يعني .
اكان يظن بأني سأخل بجلال حفلته بمفاجأة مني غير سارة ؟ اعني ان ” اقلب العرس مأتما ” على حد شائع القول؟ لم يكن هذا ممكنا . فالمحتفى بذكراه عدني صديقا واستشهد بفقرات من احد كتبي كما سبق لي قبل عامين ونصف عام ان ابديت رأيا في شعر الجواهري ورسالة الجواهري ومكانة الجواهري على صفحات شهيرة تطبع بضع عشرات من الوف النسخ . وكل هذه “اندفاعات” لا تسيء الى الجواهري بل تعزز مكانته وتعطيه حقه . ولذلك ارى الصديق متجنيا علي اذ توهم بأني سأسئ الى ذكرى الجواهري والى الحفل لو افسح لي مجال فيه .
مستنقع الافكار الاسنة
علي ان اراه مصيبا في وصفه لي هذا من جهة اخرى بل لعله اصاب كبد الحقيقة . فكثيرا ما وجدت نفسي انوء تحت عبء الكاتب الملتزم بقول الحقيقة او ابداء رأي فيه جرأة . وكثيرا ما الجأني هذا الالتزام الى خوض مستقع تطوف فوقه الطحالب والنفايات . وتسكن في اعماقه فصائل ضارة من الاحياء الدنيا . فتعثر قدمي بها واقلق راحتها واغنص عليها عيشها الرخي . واحرمها النوم الهنيء وهي لا ابالك اندفاعات لا يقدم عليها كثير من الناس , بسبب ما تجره من متاعب على صلحبها . والمكافأة الوحيدة هي حسن ظن القراء . والمعروف ان سنة الحياة واسس التقدم واصلاح فيها يتطلب روادا وضحايا واقدام ولا بد لكل عملية تحول وتجديد من طلائع مستعدة للاندفاع ومواجهة العواقب .
والجواهري بحياته السياسية التي سأنقل طرفا منها . قد يقوم مثلا حيا للمندفعين في هذه السبيل . قاتل بشعره الطغيان والحكام المستبدين . ودخل المعترك السياسي غير هياب ونال من الاذى مالم ينله اي شاعر طائر الصيت . خاصم التعصب القومي والطائفي المتمثل في المفكر القومي المعروف ساطع الحصري . فنفي وابعد ووقف في وجه الدكتاتورية العسكرية المتمثلة بانقلاب .
بكر صدقي وحكمت سليمان فدخل السجن . ووقف وقفة بطولة ضد حكومة رشيد عالي التي تمخضت بحركة مايس . وخاصم عبد الكريم قاسم صديقه فزج به في السجن وخاصم حكم الحزب الواحد فنفي ومات مبعدا حياة عاصفة مشحونة بالزوابع والاعاصير لم يتفق لاي شاعر عربي كبير طائر الصيت منها كما انفق للجواهري بكثرة الاعتقال والسجن والتشريد .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012