اسماعيل ابراهيم عبد
اذا كان ((ابن عربي قد حدد نظرتة للمعرفة الذوقية بأنها الحدس الذي يقترب من الادراك المباشر للحقيقة في جوهرها ، فان سبينوز يراها بأنها المعرفة التي تتحدد بإذابة الوعي الانساني) (1) فإن القاص الباحث حسين عارف قد أذاب المحتويين في آليات تكنيكه السردي، حسب تفاصيل اقترحتها(( متابعتنا)) تؤكد العلاقة البنائية بين التكنيك وعناصر ووظائف وحدات التكوين السردية فـ ( هنري جيمس وبروب وتوماشفسكي وبارت يتفقون في عدم فصل الوظائف والشخصيات عن بعضها لأنها في علاقة متبادلة دوماً بحيث يتحكم أحدها في الآخر)(2) والقصة ((نبع رحمن))(3)يمكنها ان تقترح علينا آليات متعددة للصور الفنية(( حيث ان الصورة الفنية هي ما تولده اللغة في الذهن بحيث تشير الكلمات إما الى تجارب خبرها المتلقي من قبل ، أو إلى انطباعات حسية))(4) , ان ذلك مستند الى ما يأتي : أولاً : آلية التجزيئية المكانية
يضيء القاص مكان الأحداث بأن يضعها مباشرة أمام تكون الطبيعة الجامدة ترسم أرضية حقيقية من صخور واغوار ماء ونبات:
[صخرتان عملاقتان تستند إحداهما على الاخرى بحافتها العليا … وضمن القاطع المواجه للصخرتين من هذا المحيط ، يكمن المجرى الضيق الذي تجد المياه المتدفقة من الحلمات النبعية طريقها عبره … غير ان المجرى ، وهو يلقى المياه الى داخل حفرة اكثر سعة يضمن لها ضياء خافتاً من لوحين صخريين بيضاوين على جانبيها]
أن الخفاء المكاني هنا يستتر وراء (الضياء الخافت والحفرة الداخلية) ، وهذان المظهران جزئياً يكمن وراءهما فعل اخر للطبيعة ذلك هو كوامن محتويات الماء ، ومحتوى البياض الصخري .
ثانياً : فطرية الحساب البيئي
هنا يعتمد التدفقات الانسانية ، أي الحركة البطيئة الدائبة التصاعد , وهذه لا تتلاءم مع المقاييس الحديثة بِنُظُمِها وأجهزتها لذا استُعِيض عنها بالقياسات التي لا تعْتَد بالأجهزة ، ولا تخضع لأنظمتها ، مثل : مسافة ثلاثين أو أربعين خطوة ، أربعة أشبار ، ذراعاً ذراعاً … الخ، وهذه الآلية تضامن آليتي التجزيئية المكانية والبيئية وتعطي للاندماج الروحي روعة وبهاء ، وتتآلف خطياً مع التجمع الخيطي الدائري حول (البيئة ، البشر ، فطرة الخير) . والقصة بأكملها تمتثل لهذا الاتجاه ـ تقريباً ـ.
ثالثاً : وسائل الروي المتعدد
أ . المونتاج الروائي
يتعامل النص القصصي مع هذه الموضوعة باعتبار أن عمليات التكتيك السردي في التقديم والتأخير ، والتنويع بالحلم مرة ، وبالأسطورة ، مرة ، وبالتذكر والمناجاة ، وبالتوجه نحو الذات الساردة مما يعني تقيد الرواية بنوع من السبك الروائي النسيجي والحكائي ، ولكن بطريقة المشاهد المتلاحقة ، والتي يفضي بعضها الى بعض أو ينبع بعضها من بعض ، هذا التكتيك شائع في الاعمال القصصية النمطية ، لكن حسين عارف ، وعن طريق الاقتصاد اللغوي الشديد المفعم بالهم الانساني الفطري ، جعله ينقل تلقائية الحوادث بما يشبه جريان ماء النبع ، ويزيد عفوية الاداء ، وانضباطيته .
ب . الروي بالانابة
وهو من جزئيات اخرى تسبك النسيج وتحيله الى مناسبة للتضافر بين المهيمنة الفكرية والغاية الفنية . لأجل الظفر بنموذج حي للفعل الروائي . وهذه الانابة الروائية تتم عبر ثلاثة وسائد ، راوٍ عليم خارجي ، منشطر على ذاته:
[في تلك الليلة كنتَ ونبعكَ موضوع حديث أهل القرية . وفي الصباح قرر فتية القرية مساعدتكَ . أتوا وعملوا معك كتفاً لكتف . وعند الأصيل استحالت الأدغال الى نبع . صار (( نبع رحمن)) كما سماه الفتية .] ص89 .
وراوٍ نائب ثالث : منبثق من ذاكرة الماضي المنبثة في لحظة الآن الحاضرة :
[آه منك ((يا نبع رحمن)) فباستثنائنا أنا وأنتَ لن يعرف أحد سر هذا العشق الذي يشدني إليك … فالناس لا يدرون شيئاً اللهم إلا أن ((رحمن)) عشق (( نبع رحمن)) . كانوا يرونني كل يوم بكَ مثل عاشق مجنون ، آت إليكَ ، أتأملكَ ، وكالعابد أجلس قربكَ .. بلى .. فالناس لم يعرفوا سوى هذا ، لأجله سموني (رحمن) عاشق ( نبع رحمن) . لكننا أنا وأنتَ نعرف أشياء كثيرة غير ذلك .أشياء اخرى يا((نبع رحمن))..يا نبع رحماني] .ص90
ج . الروي بالمشاركة
هو الروي الذي يُخبر عن الحادثة بوصفها مهمة مناطة للراوي المشارك في صياغة الحدث، المتدخل في توجيه اللغة . وهو لا يناور ولا يخاتل ، ولا يفتعل المونتاج ، ولا يتشتت في الفلاش باك ، لكنه يتأوه للألم ويضطرب للتغير ويتأزم كشاهد على ما يجري عند مساحة روايته : [نفد الصبر والجَلَد عندي ولفني الاضطراب تماماً .. لم يكن ليقر لي قرار . لم أكن قط في أحلك الاوقات من أيامي الماضيات كما كنتُ عليه من بؤس وشقاء وعذاب في تلك الساعات. عندما أفقتُ من نومي ، شعرتُ وكأن الارض تميد بي من تحت أقدامي وتبتلعني ] ص86
3 ـ آلية المهيمن الفكري : هنا ، نرى ان من الافضل ان نلخص القصة بايجاز شديد ، لكي يمكننا تسليط آلية الفهم على تأويل المضمون العام للقص فــ :
[ان رحمن الجَد .. عندما كان شاباً عثر على نبع في فسحة بين صخرتين عملاقتين وحين تفجر الماء سمي النبع باسمه .. وانساب الماء عبر المنحدرات حتى وصلت استدارته أمام ايوان المسجد .. وفي احدى الايام يكمن حفيده حمد بين الادغال وتحت اشجار الصفصاف (التي نمت بسبب نبع رحمن) ويصطاد سمكة صغيرة فيقرر ان يربيها أو يهديها لجده .. يحلم الجد بالسمكة ، وبسبب هذا الحلم تنقل السمكة الى حوض قرب إيوان المسجد وعند منفذ مائي نحو نبع رحمن .. فتكبر السمكة .. ويؤتى باسماك اخرى ليكبرن كذلك .. وفي أحد الأيام يأتي الجد الى الحوض ليجدها شبه ميتة ، يظن الجد أن الغرباء قتلوها بالسم ، فيمرض .. ولأجل ان يشفى يقرر الذهاب عبر المنحدرات حتى يصل الى نبع رحمن ، وكان قد صار عمره ستَ وستين سنة ، وهناك يتمدد قرب نبعه ، يمد قدميه في مياه النبع.. يتطهر من هموم الدنيا وأثقال الحياة ويغفو .. يغفو حتى النهاية!].
نعدُّ هذا التلخيص ابتسار قسري لكنه ضروري لنحصر من خلاله المهيمن الفكري للقص . نرى ان هذا المهيمن قد ساعد على إبرار العمل الفني بشكل جلي ، وهو كمهيمن يمكن ان نحصر آلياته بما يأتي :
ـ امتداد الجذور ككناية عن الأصالة ، فالصخرتان حاضنتا النبع ، وهما قلب الارض وعمقها (جذرها) . والحفيد هو النبع الثاني للجد ، مما يؤصل الاتصال الجذري بين أطراف الانسانية ـ الاتصال الفطري بين الجذور والينابيع ، ومكونات البيئة الاخرى , إذ السمكة هي روح الماء ، وكذلك النبات ، وهما (روحياً) يتصلان بنبع رحمن .
ـ التشبب بالنبع والسمكة تشبب حمد بجده ، وجده بالبيئة الجامدة .
ـ الغرباء سبب كل بلاء ، فهم قتلوا السمكة وأساؤوا للنبع وسببوا موت الجد !!
ـ التطهر نمط من الاندماج الفطري للإنسان بالطبيعة وبالعكس : إذ المعادل العفوي للعاطفة الروحية والتجسيدية هو الماء ، وطريقة التطهر اعتراف جداني برحمانية نبع رحمن . والتي هي طريقة في التخلص من الجسد كلياً قبل الموت ، والوصول الى الحياة الروحية بولوج القدمين في ماء النبع ثم الغياب في غفوة نهائية !
ـ المكانية مظهر آني حيث أن صيغة القصة هي رواية من الذاكرة ، وربما ذاكرة ما بعد الموت , هذا التشبيب المكاني هو افتراض سردي أوصل القص مرتبة المهيمن الفكري (المكان هو كل شيء يعيق الزمن عن تسريع الذاكرة) (5)
المصادر
(1) قاسم محمد عباس ،تأويل القلب في نظرية المعرفة عند محيي الدين بن عربي ، مجلة أبجد،ع1لسنة 2004، دار ابجد ، بغداد ، 2004، ص25
(2) ولاس مارتن، ترجمة د . حياة جاسم محمد ،نظريات السرد الحديثة , ص152
(3) حسين عارف ، قصة نبع رحمن، عشرون قصة كردية ، ص81 , 90 (4) د . ثابت الآلوسي ، الصورة الشعرية الحديثة والغموض ، مجلة الاديب المعاصر ، حزيران1987، الشؤون الثقافية ، بغداد (5) لطفية الدليمي ، الأمكنة في ثباتها / الأمكنة في ترحالها ، مجلة هلا ع2 لسنة 2006 ، الجمعية العراقية لدعم الثقافة ، بغداد ، ص20.