لم يكن محررو الصحف اليومية في عصر الطباعة الورقية أشخاصاً عاديين، أو موظفين مغمورين. ولم يكونوا عيالاً على المهنة، أو متطفلين على الإعلام. بل كانوا صفوة القوم، ونخبة المجتمع. وكان للمراجع العليا رأي في بقائهم في هذا الموقع أو ذاك، لأنهم صناع رأي عام، ولهم تأثير كبير في الشارع.
وفي العادة يمر اختيار رئيس التحرير عبر سلسلة طويلة من النجاحات التي يحققها في مجال عمله، أو يصيبها في سنوات خدمته. ولا بد أن يحظى بقبول الرؤوساء أو الوزراء المعنيين بالإعلام. ففي الغالب يقوم هو بالتعبير عن السياسة العامة للدولة.
يروي الأستاذ محسن محمد رئيس تحرير جريدة «الجمهورية» المصرية بعد عام 1975 أنه كلف الأستاذ كامل زهيري بكتابة مقال يومي تحت عنوان «من ثقب الباب». وأخذ وعداً من رئيس الجمهورية في حينه أنور السادات أن يكون المقال حراً.
وكامل زهيري (1927 – 2008) صحفي لامع من جيل إحسان عبد القدوس ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وأنيس منصور وعشرات غيرهم. تولى رئاسة تحرير روز اليوسف والهلال، ثم أصبح رئيساً لمجلس إدارتيهما، ثم نقيباً للصحفيين المصريين لدورتين، ثم رئيساً لاتحاد الصحفيين العرب!
وحينما بدأ بكتابة المقال دهش زملاؤه بسبب جرأته المتناهية، وتنبأوا أن يتوقف بعد أيام قليلة. لكنهم لم يحركوا ساكناً، فقد كان من الصعب إسداء النصح لرجل بمنزلة كامل زهيري هذا.
وجاء اليوم الذي تدخل فيه أنور السادات شخصياً.
قال السادات «كامل زهيري لا يمكن أن يستمر كاتباً في الجريدة. إنه يهاجمني ويهاجم النظام كل يوم!». فرد محسن محمد بما يشبه التوسل: «سيدي الرئيس إنه رئيس اتحاد الصحفيين العرب، ومنعه من الكتابة سيدفع هذا الاتحاد لمهاجمتنا أيضا».
وأردف : «أعطني مهلة وسأجعل كاملاً هذا يغير من طريقة كتابته!»
وفوجئ الجميع في اليوم التالي بعدم وصول مقال كامل زهيري في أوانه. وحين الاستفسار عن الموضوع تبين أنه سافر إلى العراق.
بعد شهر كامل عاد كامل من بغداد! واستأنف مقاله اليومي بشكل أكثر اتزاناً ولم يعد يهاجم السادات بالمرة.
ولم يفت مثل هذا التحول السادات فسأل رئيس التحرير «ماذا فعلت لكامل زهيري حتى تغير بهذا الشكل؟»
قال محسن محمد بثقة :» لقد ربيته يا ريس حينما منعته من الكتابة شهراً بأكمله».
ولم يقتنع السادات بالإجابة فقال: «يظهر أن رحلته إلى العراق علمته ما هي الدكتاتورية، وماذا يفعل صدام حسين في العراقيين. وعرف أن مصر جنة الحرية»!
كان السادات محقاً في تفسيره لظاهرة انقلاب الأحوال عند كاتب عملاق مثل كامل زهيري. فليس من السهل مقارنة هامش الحرية بالعراق بنظيره في مصر. ولكن هذه الحادثة أثبتت عمق صلة الصحافة برأس الدولة. ولاسيما الجريدة اليومية التي يتلقفها مئات الألوف من الناس، وينتبهون لكل كلمة فيها.
فهل الصحافة الألكترونية التي أوشكت على القضاء على نظيرتها الورقية، تملك اليوم مثل هذه الأهمية لدى الدولة والناس. وهل ستنجح في صنع قامات كبيرة كالتي كانت موجودة من قبل؟ سؤال لا أعرف الإجابة عنه حتى هذه اللحظة.
محمد زكي إبراهيم
عصر الصحافة
التعليقات مغلقة