جيمس جيفري
بينما تركز واشنطن لأسباب وجيهة على القضايا النووية لشمال كوريا وإيران، هناك أزمة استراتيجية أخرى تطرح تهديداتها وتتعلق بتركيا. وفي حين أنه من الممكن حل النزاعات الثنائية المختلفة التي تؤجج هذه الأزمة، إلّا أن هناك حاجة لقيام كل من واشنطن وأنقرة بإجراء تغييرات في مواقفهما، وتواصلهما على مستوى أعلى وأفضل، لتجنّب إلحاق ضرر دائم يؤثر على سياسة الولايات المتحدة في جزء كبير من المنطقة الأوروبية الآسيوية (أوراسيا).
وقد بلغت مجموعة القضايا التي بدأت مستعصيةً وتسببت في خلاف بين البلدين ذروتها عندما التقى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بنظيره الأميركي مايك بومبيو في 4 حزيران/يونيو، لحل إحدى هذه المشكلات ظاهرياً – وهي وضع «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردي الحليف للولايات المتحدة حول مدينة منبج السورية، الذي تعده أنقرة مصدر تهديد لها. لكن تهديداً أكبر طغى على المحادثات، ألا وهو إقدام تركيا على شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية «أس-400» وتأثيرها على شراء أنقرة للأسلحة الأميركية، وعلى وجه التحديد المقاتلة من طراز «إف-35»، التي تشتري منها تركيا أكثر من 100 طائرة وتشارك في سلسلة الإنتاج بأكملها.
وتنقسم النزاعات الثنائية إلى أربع فئات. الأولى والأكثر خطورة هي تطبيق الكونغرس الأميركي عقوبات [على تركيا بسبب] شرائها نظام الدفاع الجوي «إس-400»، كرد فعل للأنشطة الروسية الشائنة. وهناك مخاوف حقيقية من إمكانية قيام روسيا باستخدام هذا النظام لجمع معلومات استخبارية عن طائرات «إف-35» التي يتم تحليقها من قبل الطيارين الأميركيين والأتراك.
أما الفئة الثانية فهي سوريا، حيث تعد تركيا أن كل من إيران والرئيس السوري بشار الأسد، فضلاً عن «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي هو جناح «حزب العمّال الكردستاني» التركي الكردي المتمرد في سوريا، تشكّل تهديداً وجودياً لها. ومن المهم الإشارة إلى أن تركيا تعد تنظيمي «الدولة الإسلامية» و«القاعدة» في سوريا بمنزلة تهديدات تكتيكية أقل إلحاحاً على ما يبدو. وعلى النقيض من ذلك، تلتزم الولايات المتحدة خطابياً باحتواء تصرفات إيران في سوريا، ولكن أولويتها كانت منصبة على محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، الأمر الذي يتطلب قيام تحالف مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» نفسه الذي يهدد تركيا. وتعمل واشنطن وأنقرة على إخراج عناصر «حزب الاتحاد الديمقراطي» من منبج، بالقرب من المواقع التركية، لكن الأسئلة الأكبر المتعلقة بسوريا تنتظر قرارات إدارة ترامب.
ويتمثل مجال الانقسام الثالث في طلب تركيا من الولايات المتحدة تسليم زعيم حركة غولن الدينية الثقافية فتح الله غولن، لدور حركته في الانقلاب العسكري التركي في عام 2016. ويشك الأتراك في تورّط أميركا في الانقلاب، نظراً إلى رد واشنطن الأوّلي الفاتر، وإقامة غولن في الولايات المتحدة. وحيث لا يثق البعض في واشنطن بأي ادعاء صادر عن الرئيس أردوغان، فهم يشكّكون بدور أنصار غولن. وقد تراجعت مكانة الولايات المتحدة في تركيا أكثر من المستوى المنخفض الاعتيادي بشأن غولن، الذي يعتقد معظم الأتراك أنه يقف وراء الانقلاب.
وهناك قضايا قانونية أخرى – من بينها اتهام تركيا لقس أميركي وموظفين أتراك ضمن بعثة الولايات المتحدة بارتكاب جرائم سياسية، ومحاكمة في الولايات المتحدة تشمل قيام مصرف تركي تابع للدولة بتقويض العقوبات على إيران – تؤدي جميعها إلى إساءة العلاقات بشكل إضافي. كما أن الإجراءات التي يتخذها الرئيس أردوغان من أجل زيادة حكمه الاستبدادي تغذي المخاوف من أنه سينهي الديمقراطية في تركيا.
وهناك مساومات محتملة لجميع هذه القضايا الصعبة، لكن وجهة نظر كل دولة تجاه الأخرى تعزّز الاتجاه اللامركزي لهذه المشكلات. فالأتراك، وليس أردوغان وحده، يعدون السياسة الخارجية في القرن التاسع عشر، من حيث الواقعية السياسية، ذات «قوة عظمى» حيث أن علاقات تركيا مع الآخرين نفعية إلى حدّ كبير. ولا يتعاطف الأتراك كثيراً مع التطلعات المثالية للنظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، بل يعدونه أداة أمنية جماعية مفيدة. وعندما تتصرف الولايات المتحدة خلافاً لسلوك «القوة العظمى» المتوقّع، على غرار انتقاد تركيا بسبب سياساتها المحلية، يشعر الأتراك بوجود بعض الدوافع الخفية وراء هذا التصرف، أو حتى الدعم الأميركي الخفي للأعداء الداخليين – مستشهدين بوجود غولن في بنسلفانيا والشراكة الأميركية مع «حزب الاتحاد الديمقراطي» الذي يدور في فلك «حزب العمّال الكردستاني».
كما ينظر الأتراك إلى تصرفات الأميركيين المختلفة على أنها «خيانات» سابقة، بدءاً من سحب الصواريخ من تركيا أثناء الأزمة الكوبية، مروراً بحظر الأسلحة الذي تم البدء بتنفيذه بعد تدخل تركيا في قبرص، وإلى قرارات الكونغرس الأميركي بشأن الإبادة الجماعية للأرمن، وإدانة الرئيس أوباما لأردوغان بعد موافقته على اتفاق نووي مع طهران بناءً على طلب أوباما في عام 2010. (وينسى الأتراك بسهولة الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة على مر العقود، بدءً من من مشاريع خطوط الأنابيب الاستراتيجية، وإلى القبض على زعيم «حزب العمّال الكردستاني» أوجلان).
وبدورها، تشعر الولايات المتحدة بالقلق من انجراف تركيا بعيداً عن العالم «الغربي» ونحو روسيا. وتركز واشنطن على تحديات أردوغان للتعددية الديمقراطية والحرية الإعلامية، وزيادة «الأسلمة»، والعلاقات المريحة مع موسكو التي تتجلى في بيع نظام الـ «إس-400».
لكن تركيا كدولة، ومعظم الأتراك، راضون أساساً عن «الوضع القائم»، كونهم المستفيدين الرئيسيين من النظام الاقتصادي العالمي – مما يسهل نموهم الاقتصادي الهائل واتحاد الجمارك المشترك مع الاتحاد الأوروبي – والنظام الأمني لحلف «الناتو» على السواء. فهم يخشون بالفطرة من الدول التوسعية المعادية للوضع القائم مثل روسيا وإيران.
ويعد الأتراك أنفسهم جزءاً من الغرب على نحو لا تعد ذلك شعوب السعودية أو إيران أو مصر. وحين يفكر الأتراك من الرئيس نزولاً إلى عامة الشعب بالعالم الخارجي، تكون برلين أو لندن أو واشنطن نقطتهم المرجعية وليس موسكو أو الرياض. وقد حلم أردوغان بنفوذ تركي يجسّد «سلطنة عثمانية جديدة» من خلال جماعات «الإخوان المسلمين» الحليفة في مختلف أنحاء العالم العربي، لكن هذا الحلم تبدّد في ظل ردود الفعل من مصر إلى سوريا ما بعد «الربيع العربي». إن الدول التي تشكّل استثناءات نادرة على غرار الصين وإيران لا «تخرج» بسهولة من أي ائتلاف عالمي. لكن الافتراض، كما يفعل البعض في واشنطن، بأن «الولايات المتحدة قد خسرت تركيا» يجعل المساومات من أجل إصلاح العلاقات أمراً صعباً، فلماذا تكبّد العناء إذاً؟ إن «التعنّت» الناتج في المواقف الأميركية يولّد مخاوف تركية من أن الولايات المتحدة تحاول إلحاق الضرر بتركيا.
إن المخاطر هائلة بالفعل. ومن الصعب رؤية الولايات المتحدة تقوم باحتواء إيران من دون تركيا. كما أن تركيا هي مركز نظام الرادار الخاص بحلف «الناتو» الضروري لدفاعات الحلف الصاروخية في وجه إيران. وفي منطقة شاسعة، تشمل عمليات حلف «الناتو» في أفغانستان والبلقان، وفي أوكرانيا، وفي القوقاز، وعلى طول الحدود السورية، حيث يتمّ إيواء ملايين اللاجئين الذين كانوا سيتدفقون إلى أوروبا، تضطلع تركيا بأدوار مهمة. وبما أنها تقع بين روسيا العدائية، وسوريا، وإيران، فهي تمكّن الولايات المتحدة من بسط نفوذها البري والجوي والبحري في شمال الشرق الأوسط، والبحر الأسود، والقوقاز. وفي حين غالباً ما تطالب تركيا بالقيام بدور في اتخاذ القرارات المتعلقة بالعمليات الأميركية، فإن الحقيقة هي أنها أيدت بشكل حاسم الخطوات التي أتخذتها الولايات المتحدة، بدءاً من الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلى حرب كوسوفو، وإلى صراع جورجيا عام 2008 والعمليات في أفغانستان. وعلى الرغم من الصعوبات المالية الحالية، تُعد تركيا واحدة من أكبر 20 اقتصاداً في العالم، ولديها ثاني أكبر جيش في حلف «الناتو»، وهي مستقرة وديمقراطية وفقاً للمعايير الإقليمية. إنها ليست شريكاً يمكن للمرء أن يتجاهله بسهولة.
إنّ المسألة الوحيدة التي من شأنها أن تخرج تركيا من الشراكة مع الولايات المتحدة هي قضية العقوبات على شراء الأسلحة الروسية. وبسبب رفض تركيا إعادة النظر في شراء منظومة «أس-400» (هذه الصفقة لم تكتمل بعد من الناحية العملية) إضافةً إلى احتجاز مواطنين أميركيين وخطايا أخرى، يسعى الكونغرس الأميركي حالياً إلى منع عمليات انتقال مقاتلات «إف-35» بشكل وقائي التي من المقرر أن تبدأ في حزيران/يونيو. وقد تشكّل هذه الخطوة ضربةً كبيرة ومكلفة جداً بالنسبة لتركيا، على غرار منع الكونغرس نقل طائرات «أف-16» التي اشترتها باكستان. ولم يتمّ ترميم الثقة بين واشنطن وإسلام أباد بشكل كامل. وحتى يومنا هذا، ما يزال هذا الأمر يؤثر على عمليات الولايات المتحدة مع باكستان وفي أفغانستان. ويشكل ذلك سبباً كافياً لمراقبة مجريات هذه المحادثات عن كثب.
*جيمس جيفري زميل متميز في زمالة «فيليب سولوندز» في معهد واشنطن.