متابعة الصباح الجديد:
لا يفطر الصائمون حتى يسمعوا صوت الطوب، هكذا كان دأب العراقيين عامة والبغداديين خاصة، أيام شهر رمضان المبارك، فالطوب وسيلة مهمة لمعرفة وقت الإمساك ووقت الإفطار.
وكلنا نتذكر مدفع رمضان الذي كانت وزارة الدفاع العراقية تضعه في مكانات محددة على ضفة نهر دجلة ليطلق قذائفه الصوتية فيسمعها الناس عند ابتداء الصوم بوقت الامساك ثم بوقت الافطار عند الغروب.
ما هو الطوب؟
كان العراقيون وحتى مطلع القرن العشرين يطلقون على سلاح المدفع كلمة طوب، والطوب كلمة تركية تعني المدفع.
ويذكر أن الناس كانوا يصعدون فوق أسطح منازلهم وقت اقتراب موعد الإفطار أيام شهر رمضان الفضيل، أو يعتلون مكانا مرتفعاً، ويتوقف الناس عن إصدار الأصوات، ويعمّ الهدوء لكي يتسنى لهم سماع صوت الطوب، خاصة المناطق البعيدة عن مكان هذا المدفع، وكانت مدافع الإفطار تعمل وقت رمضان في المدن الرئيسة، وتوضع قرب النهر، أي في منطقة مفتوحة، لكي يصل صدى الإطلاقة إلى أبعد مكان ممكن، وكانت الإطلاقة عبارة عن حشوة صوتية فقط.
والطوب لا يلغي الأذان الذي ترفعه المساجد والجوامع لتعلن موعد الإفطار، لكن العادة جرت عند العراقيين هكذا، فسماع صوت المدفع كان سمة رمضانية خالصة عندهم.
هذا وما زال الكثير من العراقيين حتى يومنا هذا يعلنون فيما بينهم عن موعد وقت الفطور قائلين:«ضـَرَبَ الطوب» ويعنون بها أن وقت الفطور قد حلّ، وان المدفع أطلق قذيفته معلناً بدء الفطور.
طوب ابو خزامة في التراث البغدادي
والطوب له معنى آخر عند العراقيين، فضلاً عن مدفع رمضان، ومجرد ذكره يتبادر إلى أذهانهم الطوب الشهير المسمى «طوب أبو خزامة»، اذ يعد واحداً من الرموز التراثية المهمة التي تحمل ذكريات لا تنسى، إذ كان يحتل هذا الطوب مكاناً بارزاً أمام بناية وزارة الدفاع العراقية القديمة الواقعة في ساحة الميدان ببغداد.
فما حكاية هذا المدفع الذي أصبح اليوم تحفة أثرية رمزية تحكي مرحلة تاريخية مهمة من مراحل حياة بغداد وأهلها في عقود خلت؟
تؤكد الوثائق التاريخية والأخبار أن «طوب أبو خزامة» هو مدفع من مدافع السلطان مراد العثماني التي استعملها في قتال الفرس وطردهم من بغداد، وهو مصنوع من معدني الصِفِر (النحاس) والحديد، ويبلغ طوله 4 أمتار و44 سم، ومحيطه من مؤخره متران و4 سم، وقطر فوهته 48 سم. وعند فوهة المدفع أربع قنابل، ثلاث منها إلى الأسفل والرابعة قائمة عليها.
وتعود شهرة هذا المدفع عن غيره من المدافع كونه كان من مجموعة مدافع أبلت بلاءً حسناً في الحرب، وهذا المدفع خاصة كانت قنابله هي التي أدت إلى فتح ثغرة في أسوار بغداد المنيعة، وبسببها تم دخول العثمانيين بغداد وتحريرها من الغزاة الفرس، وأما تسميته بـ «أبو خزامة» فهي نسبة إلى وجود حلقتين مرتبطتين بالمدفع تم وضعهما لتسهيل حمله.
هذا وقد نسجت حول هذا المدفع الأساطير وحيكت الغرائب في أمره في فتح بغداد، كأن ما استشعره البغداديون من ذل الاحتلال الفارسي الذي دام خمس عشرة سنة قد دفعهم إلى هذه الأقاصيص، وكان شأنهم في أول الأمر معه شأن المعجب، ثم استحال الإعجاب مع مرور الأيام إلى تقديسه والتبرك به، ومن تلك القصص أن هذا المدفع صار يلتهم التراب(!!)، ويرمي به ناراً على جنود المحتلين الفرس حتى بلغ الأمر بكبار العامة في بغداد إلى الاعتقاد بأن هذا المدفع «طوب أبو خزامة» وليّ من أولياء الله لا يخيب قاصداً قط. لذلك كانوا يزورونه للتبرك به وطلب المراد منه. وكان البعض من هؤلاء، ولاسيما النساء ينذرن له، ويوقدن حوله الشموع في كل ليلة من ليالي الجمعة، وقد ظلت هذه العادات جارية حتى عهد متأخر، مما اضطر العلامة السيد محمود شكري الألوسي في أواخر العهد العثماني إلى أن يكتب رسالته الموسومة «القول الأنفع في الردع عن زيارة المدفع» يعلن فيها شجبه لهذه المظاهر الوثنية التي راجت عند عوام الأهالي في بغداد.
وكان حتى السنين التي سبقت 2003 يقوم السياح والوفود الأجنبية بزيارة هذا المدفع، وتوثيق زيارته بصور تذكارية يلتقطونها له وهم بجواره، لما يسمعونه عنه، ونتيجة لمكانته الكبيرة داخل المجتمع العراقي، وما يكنه العراقيون له من حب وتبجيل وتقدير.
ويقال إن الشيخ الجليل الراحل العلامة جلال الحنفي البغدادي المعروف بسعة الأفق وبعد النظر شجع على إدخال رؤوس الأطفال في فوهة «طوب أبو خزامة» للتبرك والنذر، لأن هذه العادة تكرس مفهوم الشجاعة، كما يتربون على روح القتال في سبيل الوطن، وكان الشيخ الحنفي ممن صنع ذلك لأطفاله، وأكد أن هذا الحس قد نشط الناس بعد الاحتلال البريطاني لبغداد.
فبالرغم من أن «طوب أبو خزامة» كان رمزاً لأيام الاحتلال العثماني البغيض الذي لم يكن أقل شراً من الاحتلال البريطاني، إلا أنه أصبح فيما بعد رمزاً من رموز الفولكلور العراقي الذي وظف سياسياً لتوعية الجماهير في تلك الفترة، عن طريق بث المفاهيم التي تخدم المهمات الوطنية والقومية بصورة غير مباشرة.
ماذا يعني مدفع رمضان
مدفع رمضان هو مدفع يستعمل كأسلوب إعلان عن موعد الإفطار وإخبار العامة عن هذا الموعد. وهو تقليد متبع في العديد من الدول الإسلامية بحيث يقوم جيش البلد بإطلاق قذيفة مدفعية صوتية لحظة مغيب الشمس معلنًا فك الصوم خلال شهر رمضان.
لمحة تاريخية
يشير التاريخ إلى أن المسلمين في شهر رمضان كانوا أيام الرسول « ص» يأكلون ويشربون من الغروب حتى وقت النوم، وعندما بدأ الاذان اشتهر بلال وابن أم مكتوم بأدائه.
وقد حاول المسلمون على مدى التاريخ، ومع زيادة الرقعة المكانية وانتشار الإسلام أن يبتكروا الوسائل المختلفة إلى جانب الآذان للإشارة إلى موعد الإفطار، إلى أن ظهر مدفع الإفطار إلى الوجود.
كانت القاهرة عاصمة مصر أول مدينة ينطلق فيها مدفع رمضان. فعند غروب أول يوم من رمضان عام 865 هـ أراد السلطان المملوكي خشقدم أن يجرب مدفعًا جديدًا وصل إليه. وقد صادف إطلاق المدفع وقت المغرب بالتحديد ، ظن الناس أن السلطان تعمد إطلاق المدفع لتنبيه الصائمين إلى أن موعد الإفطار قد حان، فخرجت جموع الأهالي إلى مقر الحكم تشكر السلطان على هذه البدعة الحسنة التي استحدثها، وعندما رأى السلطان سرورهم قرر المضي في إطلاق المدفع كل يوم إيذانًا بالإفطار ثم أضاف بعد ذلك مدفعي السحور والامساك.
وثمة روايات أخرى تفيد بأن ظهور المدفع جاء عن طريق المصادفة ، فلم تكن هناك نية مبيتة لاستعماله لهذا الغرض على الإطلاق، اذ كان بعض الجنود في عهد الخديوي اسماعيل يقومون بتنظيف أحد المدافع، فانطلقت منه قذيفة دوّت في سماء القاهرة، وتصادف أن كان ذلك وقت أذان المغرب في أحد أيام رمضان، فظن الناس أن الحكومة اتبعت تقليدًا جديدًا للإعلان عن موعد الإفطار، وصاروا يتحدثون بذلك، وقد علمت الحاجة فاطمة ابنة الخديوي إسماعيل بما حدث، فأعجبتها الفكرة، وأصدرت فرمانًا يفيد باستعمال هذا المدفع عند الإفطار والإمساك وفي الأعياد الرسمية.
وقيل في رواية اخرى ان الجند كانوا يقومون باختبار مدفع جديد جاء هدية للسلطان من صديق ألماني، وكان الاختبار يتم أيضًا في وقت غروب الشمس، فظن المصريون أن السلطان استحدث هذا التقليد الجديد لإبلاغ المصريين بموعد الإفطار. ولما توقف المدفع عن الانطلاق بعد ذلك ذهب العلماء والأعيان لمقابلة السلطان لطلب استمرار عمل المدفع في رمضان، فلم يجدوه، والتقوا زوجة السلطان التي كانت تدعى «الحاجة فاطمة» التي نقلت طلبهم للسلطان، فوافق عليه، فأطلق بعض الأهالي اسم «الحاجة فاطمة» على المدفع، واستمر هذا حتى الآن، إذ يلقب الجنود القائمون على تجهيز المدفع وإطلاقه الموجود حاليًا بالاسم نفسه .
وتقول رواية ثالثة أن أعيان وعلماء وأئمة مساجد ذهبوا بعد إطلاق المدفع لأول مرة لتهنئة الوالي بشهر رمضان بعد إطلاق المدفع فأبقى عليه الوالي بعد ذلك كتقليد شعبي.
بدأت الفكرة تنتشر في أقطار الشام أولا، القدس ودمشق ومدن الشام الأخرى ثم إلى بغداد في أواخر القرن التاسع عشر، وبعدها انتقل إلى مدينة الكويت حيث جاء أول مدفع للكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح، وذلك عام 1907، ثم انتقل إلى جميع أقطار الخليج قبل بزوغ عصر النفط وكذلك اليمن والسودان وحتى دول غرب وشمال أفريقيا مثل تشاد والنيجر ومالي ودول شرق آسيا حيث بدأ مدفع الإفطار عمله في اندونيسيا سنة 1944.
وهناك العديد من القصص التي تروى حول موعد بداية هذه العادة الرمضانية التي أحبها المصريون وارتبطوا بها، حتى علماء الآثار المصريون مختلفون بشأن بداية تاريخ استعمال هذا المدفع، فبعضهم يرجعه إلى عام 859 هجرية، وبعضهم الآخر يرجعه إلى ما بعد ذلك بعشرات السنين، وبالتحديد خلال حكم محمد علي الكبير.
فمن الروايات المشهورة أن والي مصر محمد علي الكبير كان قد اشترى عددًا كبيرًا من المدافع الحربية الحديثة في إطار خطته لبناء جيش مصري قوي، وفي يوم من الأيام الرمضانية كانت تجري الاستعدادات لإطلاق أحد هذه المدافع كنوع من التجربة، فانطلق صوت المدفع مدويًا في لحظة غروب الشمس نفسها وأذان المغرب من فوق القلعة الكائنة حاليًا في مكانها نفسه في حي مصر القديمة جنوب القاهرة، فتصور الصائمون أن هذا تقليد جديد، واعتادوا عليه، وسألوا الحاكم أن يستمر هذا التقليد خلال شهر رمضان في وقت الإفطار والسحور فوافق، وتحول إطلاق المدفع بالذخيرة الحية مرتين يوميًا إلى ظاهرة رمضانية مرتبطة بالمصريين كل عام، ولم تتوقف إلا خلال فترات الحروب العالمية.
منشأ المدفع الاول
وقد استمر المدفع يعمل بالذخيرة الحية حتى عام 1859 ميلادية، بيد أن امتداد العمران حول مكان المدفع قرب القلعة، وظهور جيل جديد من المدافع التي تعمل بالذخيرة «الصناعية» غير الحقيقية، أدى إلى الاستغناء عن الذخيرة الحية. أيضاً كانت هناك شكاوى من تأثير الذخيرة الحية على مباني القلعة الشهيرة، لذلك تم نقل المدفع من القلعة إلى نقطة الإطفاء في منطقة الدرّاسة القريبة من الأزهر الشريف، ثم نُقل مرة ثالثة إلى منطقة مدينة البحوث قرب جامعة الأزهر.
وقد تغيّر المدفع الذي يطلق قذيفة الإعلان عن موعد الإفطار أو الإمساك عدة مرات، فقد كان المدفع الأول إنجليزيًا، ثم تحول إلى ألماني ماركة كروب، ومؤخراً أصبحت تطلق خمسة مدافع مرة واحدة من خمسة أماكن مختلفة بالقاهرة، حتى يسمع كل سكانها. إلا أن اتساع الرقعة العمرانية وكثرة السكان وظهور الإذاعة والتليفزيون قد تسببا في الاستغناء تدريجيًا عن مدافع القاهرة، والاكتفاء بمدفع واحد يتم سماع طلقاته من الإذاعة أو التليفزيون، وأدى توقف المدفع في بعض الأعوام عن الانطلاق بسبب الحروب واستمرار إذاعة تسجيل له في الإذاعة والتلفزيون إلى إهمال عمل المدفع حتى عام 1983 ،عندما صدر قرار من وزير الداخلية بإعادة إطلاق المدفع مرة أخرى من فوق قلعة صلاح الدين الأثرية جنوب القاهرة ، لكن شكوى الأثريين من تدهور حال القلعة وتأثر أحجارها بسبب صوت المدفع أدى لنقله خصوصًا أن المنطقة بها عدة آثار إسلامية مهمة .
الطوب دخل التلفزيون
مازالت محطات التلفزة العربية تستعمل النقل الحي او المسجل لأطلاق المدفعية الخاصة بشهر رمضان، مع بدء آذان المغرب، وصار الاطفال يتسمرون امام جهاز التلفزيون بانتظار انطلاق المدفع ليصيحوا على امهاتهم او آبائهم بأن وقت الفطور حان لأنه:«ضـَرَبَ الطوب» .