يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 27
حوارات مع جرجيس فتح الله
س:بودنا أن نعرف شيئا عن علاقة الأستاذ عزيز بالسيد البارزاني , متى كان مبدأ التعارف ؟
ليس بوسعي اعطاء اجابة عن هذا فمحل سكناي الدائمي وعملي هو مدينة الموصل كل ما اعرفه انهما كانا صديقين حميمين في العام 1959. وقد وجدته في دار السيد البارزاني زائرا مرة . ومن المؤكد ان تلك العلاقة زادت رسوخا بعد لجوء الاستاذ عزيز مع زوجته الى منطقة الثورة عشية انقلاب الثامن من شباط . كيف تم ذلك ومتى؟ اني اجهل ذلك . وكل ما علمته انهما لقيا كل رعاية وحدب في حمى البارزاني طوال بقائهما حتى تم تهريبها خارج العراق عن طريق سورية.
عزيز في مفاوضات اذار 1970
كان لقاؤنا بعد اكثر من عشر سنوات كما اثبت في كتابي “زيارة للماضي القريب” في الخامس والعشرين من شهر تشرين الاول. استقبلناه في نقطة من طريق (هاملتون ) على بعد بضعة كيلو مترات من رواندوز . وتواصلت زياراته بعد الزيارة الاولى . والفضول ليس من طبائعي الا اني كنت ارى جزءا من واجبي تدوين كل ما يمكن تدوينه عن هذه المرحلة لاعتقادي بأنها ستنسى كما اهمل غيرها وهي جزء مهم من تاريخ الحركة الوطنية الكوردية . فعملت جهدي لاختلي به بمحاولة انتزاع كل ما يمكن انتزاعه من معلومات حول هذه المرحلة لا سيما دوره فيها . وتم لي ذلك في مناسبتين أولاهما في قرية قسري والثانية عندما حكمت المصادفة ان جمعتنا دار واحدة في حاجي عمران ليلتين ونهارين بمناسبة اخر لقاء له بالسيد البارزاني قبل استئناف القتال بأسبوعين او نحوهما لا ادري ان كان لغيري من قول ما يختلف عما سأذكره . فما سأرويه نقلا عن لسانه قمت بتدوينه فور وداعي له في حاجي عمران .ومغادرته (قسري ) قبلها . قال انه كان مشاركا في اجتماع او مؤتمر لانصار السلم . في (الماتا) عاصمة جمهورية (كازاخستان) السوفياتية في العام 1969 فتيه بالسفر الى موسكو فورا وهناك طلب منه القيام يدور الوساطة , لانهاء حالة القتال في كوردستان والوصول الى حل مرض . وتأكد له ان الحكومة الجديدة متفهمة ومستعدة وجدية في الامر . لم يقطع عزيز بالجهة التي اوعزت اليه . بالاحرى لم يشأ ان يعينها لي تعيننا . وما اظن شكا سيقوم في قارئ ما اقول هنا – بأن الطلب وقع من القيادة السوفياتية .
هنا سأتوقف عن الاسترسال في نقل ما سمعت من الاستاذ عزيز لاقول ان التدخل السوفياتي في هذه القضية لم يكن مأتاه الحرص على حقوق الشعب الكوردي في العراق . فتاريخ العلاقة السوفياتية بالمسألة الكوردية لم يسجل قط تعاطفا حقيقيا , خارج نطاق السياسة السوفياتية العامة الخارجية . واهتمامهم وعطفهم كانت تمليه دائما ظروف خاصة دولية . وامامك مأساة مهاباد مثلا .
س: ما دمنا قد انحرفنا عن الموضوع الاصل فاسمحوا لي بمقاطعتكم هنا اليسوا هم الذين استقبلوا السيد البارزاني ورجاله المسلحين ومنحوهم حق اللجوء السياسي , اليس هذا دليلا على عكس ما افترضتم ؟
هذه الحالة لا تنفي قط افتراضي . كان وصول الثوار الكورد الحدود السوفياتية مفاجأة تامة للكرملين لم يحسب لها حسابا قط . فبعد ان رفعوا ايديهم عن مهباد , وبعد ان نقضوا ايديهم منها , لم يكن يدور في خلدهم بل في خلد اي محلل سياسي واسع الخيال او مخمن لقدرة هؤلاء البائسين الافلات من ملاحقة قوى دول ثلاث تؤلف الجزء الجنوبي من السور الذي شرعت الولايات المتحدة والغرب الاوروبي ببنائه حول الاتحاد السوفياتي . وهكذا ترى ان البارزاني وضع الكرملين امام خيار واحد لا ثاني له . اما ان يصف الجيش الاحمر قواته على طول ضفاف نهر اراس بأسلحته مصوية على القادمين واما ان يفسح لهم وبمنحهم الملجأ . وبطبيعة الحال لم يكن ستالين واعوانه في اذربيجان السوفياتية على استعداد ليضيفوا القوات المسلحة السوفياتية الى القوى الثلاث التي تتعقب البارزاني ورجاله فستكون بالتأكيد فضيحة سياسية عالمية لا تستطيع الاحزاب الشيوعية في الخارج الصمود لها .
واعود الى موضوع الوساطة في محاولة لتعيين المبادرة الاولى . في رأيي ان بغداد كانت صاحبة المبادرة . وان انفتاح حكام البعث الجدد على الاتحاد السوفياتي وحرص قادة الكرملين على تقوية هذا النظام الذي خرج بوجه يختلف عن الوجه الذي واجههم به في العام 1963 , حملهم على الاهتمام بحل النزاع اهتماما مباشرا وجديا . وكان هناك ايضا “بريماكوف” فضلا عن (عزيز).
قيل ( لعزيز) بأن يغادر الى بغداد ويتصل رأسا برئيس الجمهورية قال : “وضعت في طائرة اقلتني الى العاصمة وبعد ساعتين او نحوهما كنت مجتمعا به . انبأته برغبتي الشخصية في الدخول وسيطا وبمحاولة ايجاد ارضية للاتفاق وانهاء حالة الحرب , واني امل خيرا على ضوء علاقتي بالزعيم الكوردي , فأبدى احمد حسن البكر شكه في نجاح مهمتي وسأل : هل انت واثق ان الرجل (يقصد البارزاني ) صعب وعنيد وما اظنك مفلحا معه . اكدت له ذلك فقال : ان شئت ان تجرب فلا مانع لدينا الا اننا لسنا مسؤولين عن سلامتك ان شئت المضي في مسعاك فعلى مسؤوليتك الخاصة وسننقلك الى ابعد خط تماس لنا . وانت وربك فنحن لا نستطيع ان نؤمن لك الحماية الا ضمن المنطقة التي نحن فيها .
قال عزيز : كان البكر يريد ان يوحي لي بان المبادرة لم تكن منهم بل ان الكرملين هو الذي اقترح عليهم ثم توالت الاجتماعات على نحو ما هو معروف وختمت ببيان اذار .
واقبل (عزيز) ليقوم بدور وسطة اخيرة قبل استئناف القتال في اواخر 1974 جاء وحده غير منتدب من قبل احد من اجهزة السلطة. وكانت قد حددت اسبوعين للقبول بشكل الحكم الذاتي الذي استقلت بوضعه .
بعد مرور اربع سنوات على وساطته الاولى لم تعد السلطة المركزية تعير (عزيزا) اهتماما وبدأت فأنزلته من كرسي وزارة العدل الى وزير دولة.
وزالت حرارة السوفيات الاولى التي ابتعثتها زيادة تقرب الغرب من الثورة بعد اصلاح علاقاته مع البعث ولم يعد حكم البعث بحاجة الى سنوات اكثر من السنوات الاربعة التي اتاحت له توطيد كيانه والتخلص من المتربصين به بأجراء عمليات استئصال مريعة . وبدا لي عزيز مهموما منشغل الخاطر برغم ما كان يحاول ان يظهره من جلد وبشاشة . لا شك انه كان يأسف على مجهوداته الصادقة في تقريب وجهات النظر وازالة العراقيل وهي جهود حقيقية لا مراء فيها . وايدني في استنتاجاتي التي بسطتها قبل قليل ولم يعد للكتمان مبرر . مؤكدا ان العرض الاولي كان من العراقيين . وفاجأنا السيد البارزاني وحدنا فأنسحبت وتركتهما فأنفردا طويلا .
قضينا ليلتنا الاخيرة في استذكار الماضي . وكان زواره من جماعتنا قلة , لا ادري كيف وبأي وسيلة انجر الحديث الى مذابح شباط فزل لساني بما ندمت عليه كثيرا . سألته – وفي ذهني نهاية صديقي عبد الرحيم وتوفيق – كيف فلسف جلوسه على طاولة واحدة ومبادلته المجاملات مع وزراء كان فيهم اكثر من مسؤول عن مقتلهما . وسكت برهة . ثم اجاب :” اني كنت وزيرا لكم ومن حصتكم . ولست منهم وتلك كانت رغبة السيد البارزاني بالذات “. هكذا كان تعليله بلا زيادة ولا نقصان ولم يفد اعتذاري ازالة ندمي . ورحنا نتمشى في الرواق فرسل انتظارنا الى الجدار المقابل لغرفتينا المتجاورتين – وقد رصعته عشرات من الاطلاقات النارية التي اطلقها حرس البارزاني وهم يطاردون اولئك الذين ارسلوا لاغتياله وقبل ان نقف موقف وداع فتح حقيبته واخرج علبة فيها اقراص وكان يعلم اني مثله اشكو داء القرحة. ودفع بها الي قائلا انه دواء روسي فعال للقرحة قلت : وانت ؟! اجاب بأسما : تعرف ان الحصول عليه ليس صعبا . وفي هلسنكي , ابى الا ان يتخذ واحدا من ابناء عمومتي سكرتيرا له .
س: لم تر بعدها كما ارى . علمنا انه توفي في موسكو العام 1989 . الم تحاولوا زيارته وانتم في السويد القريبة؟
كيف لا ؟ ما ان استقر بي المقام حتى انشأت اسأل عنه فقالو انه مريض جدا وهو يرقد في المستشفى الخاص بالقيادة او المسولين الكبار في موسكو وان (نورية) زوجته تلازمه فكتبت لهما رسالة اطلب فيها استخدام مساعيهما لاستحصال سمة دخول وسلمتها واحدا من الموثوقين لايصلها الى المنظمة الحزبية هناك فتقوم بدورها بتسليمها لهما ومرت اسابيع ثم اشهر دون ان اسمع نبأ . ثم جاءني نعيه. وقالوا لي ان نورية تسلمت رسالتي بعد وفاته وكان المها شديدا.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012