رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 26

حوارات مع جرجيس فتح الله*

تبين فيما بعد ان (توفيق) لم يخترع الحكاية . فقد غير الانقلابيين ساعة الصفر ثلاث مرات في الاقل . واليوم السابع من اذار كان واحدا من المواعيد .
وانا نفسي لم اكن شاعرا بأي خطر او بأمر غير اعتيادي الا انه عندما طرق باب منزلي ضابطان بثلة من الجند في الساعة الحادية عشرة من ليلة السابع من اذار لينقلاني الى القلعة الحجرية .
س: كيف تقومون الأستاذ عزيز بوصفه رئيسا لحزب سياسي مجاز قيل عنه انه كان خلال فترة ممارسة العمل الحزبي العلني انشط الاحزاب الخمسة وأكثرها شعبية وانصارا . هل كان هناك حضور كردي فيه وكيف كان الحزب ورئيسه ينظران الى القضية الكردية؟
بصراحة , لم يفرد الحزب في منهاجه الكورد والقضية الكوردية بأشارة او تنويه . والا تعذرت اجازته , كادت مناهج الاحزاب الخمسة متشابهة في التأكيد على الحياة الديمقراطية والحريات العامة . واحلال نظام برلماني سليم على درجة واحدة مبني على الاقتراع العام الحر السري المتساوي وما الى ذلك وبكلمة مختصرة لم تحتل القضية الكوردية في ذهن حزب الشعب او غيره حيزا متميزا . الا ان منهاج حزب الشعب انفرد عن سائر المناهج بعبارة ذات مدلول خاص . وهي النص على العمل على تحقيق المساواة التامة بين مختلف القوميات والجماعات التي نؤلف الشعب العراقي . وانا الذي كنت قد بدأت بالاهتمام بالقضية الكوردية وصارت تشغل حيزا من فكري . وجدت هذا التعبير وافيا بالمراد بأعتبار الظروف السائدة وقتذاك . ولم يجر مع (عزيز) بحث حولها بنوع خاص . ولا اذكر اني سمعته يتحدث فيها . ولا ادري متى تتلمذ عليها واولاها جانبا من اهتماماته . وما اذكره ان القضية الفلسطينية كانت تستحوذ على اهتمام الاحزاب السياسية وقتذاك وان (عزيزا) اصدر كتيبا حولها نسيت عنوانه انتقد فيه موقف الحزب الشيوعي العراقي الذي ايد فيه قرار التقسيم . متبعا الخط السوفياتي وهذا ما يحضرني . وليس بوسعي ان احدد وقتا لبدء اهتمام عزيز بالقضية الكوردية . والا كنت كمن يرجم بالغيب
س: بخصوص سلوك الأستاذ عزيز شريف السياسي وتعامله مع قضايا الساعة أظنك ذكرت بأنه كان يختلف عن سلوك زعماء الأحزاب الأخرين وبأنه يمتاز بالمرونة والتوفيقية ما امكن ذلك .
بل سمعت اصدقاء له يؤاخذونه على مرونته تلك ويعتبرونها مما يحط بالكرامة . وما اظن ذلك الا تجنيا عليه . فما رأيته مره يأتي بتصرف يحط من قدره او كرامته . الا ان دماثته ومرونته تلك كانت تربح له كثيرا , حيث يخطئه اخرون . وقد نوهت بذلك بمناسبة نجاحه في اطلاق سراح الاستاذ عباس بفضل هذا السلوك كما تحضرني مناسبة اخرى مهمة ارى الا امر بها او اغفلها سيما وانها تتعلق بفترة حساسة من تاريخ العراق . لم تنل الالتفاف الحري بها من قبل المؤرخين والباحثين العراقيين . واقصد بها فترة المحاكمات الكبرى للصحافة الحزبية .
فأقول : استقالت حكومة توفيق السويدي التي بعثت الحياة الحزبية وتلتها حكومة (ارشد العمري ) التي اشهرت الحرب على الاحزاب عن طريق شل صحافتها بالتعطيل واحالة رؤساء تحريرها واصحابها الى المحاكم بتهمة اثارة الكراهية والبغضاء بين صفوف الشعب وهو ما ينضوي تحت قانون العقوبات وقانون المطبوعات .وممن سيق الى المحاكم فضلا عن الاستاذ عزيز الاساتذة كامل الجادرجي(جريدة صوت الاهالي لسان الحزب الوطني الديمقراطي) وعبد الفتاح ابراهيم وناظم الزهاوي من اقطاب حزب الاتحاد الوطني. (جريدة السياسة لسان الحزب) ومحمد مهدي الجواهري (صاحب جريدة الرأي العام المعطلة) ثم صدى الدستور وكلتاهما للاتحاد الوطني. والاستاذ قاسم حمودي(جريدة لواء الاستقلال لسان حزب الاستقلال). وغيرهم ممن ليس بوسعي ان اذكرهم حصرا. وكثرت الداوي وكان يحركها القانوني(عبد العزيز الخياط) الذي كان يتولى منصب الادعاء العام بناء على طلب الحكومة . وكانت الدعاوي كلها تحال الى قاضي جزاء بغداد الاول (خليل امين المفتي )وقد سبق لي في الحلقات الاولى من هذا الحوار اني اشرت الى هذين بوصفهما من القلة القليلة التي تصانع الحكومة ولا يشرف سلوكها القاضي العراقي .
وقد شهرت هذه الحملة الشرسة على الصحافة , تعاضدا وتكاتفا بين الاحزاب السياسية المعنية التي لم يسبقه ولم يلحق به مثيل في مواجهة الحكم, تجلى بتطوع عشرات المحامين المنتمين الى كل حزب او المتعاطفين اللامنتمين للدفاع عن المتهمين بجرائم النشر تلك .تراهم يواجهون المحكمة بتظاهرة قانونية رائعة, تبلغ أحيانا خمسين محاميا في قضية واحدة , ويحرصون جميعا على حضورها وكثيرا ما يدب الشلل في اعمال المحاكم الاخرى بسبب غيابهم عن دعاويهم المنظورة . وترى الادوار تتناوب بين المحامي المهتم والمدافع . عندما يكون المحامي قاسم حمودي متهما, تجد عزيز شريف وكيل دفاعه. ثم يتبادلان الدور عندما تجري محاكمة عزيز شريف وهكذا.
وقد تسنى لي احيانا اثناء تواجدي القصير في بغداد الحضور مستمعا في احد الجلسات وكانت حسبما اتخطر الاستئناف الذي رفعه المحامون بعد صدور حكم بالسجن على الاستاذ الجادرجي . وكان (عزيز) وكيل دفاعه . القاه بالنيابة عن الاخرين. واذكر جيدا وهو من ما تعذر علي نسيانه ولانه يرتبط ارتباطا وثيقا بما اخذ عليه . فقد استهل دفاعه بتذكير الهيئة القضائية بأنه كان قبل بضعة اشهر زميلا لهم وانه مثلهم خاض خلال فترة ممارسته المهنية القضائية مقدار التأثير الذي يحدثه (قرار القاضي العادل المنصف . –لا سيما حين يقف حاميا وهاديا –الى جانب المواطن عندما تستهدف حرياته , وليس في ضمائرهم غير الانتصار للعدالة وبها يستهدون ).
كنت اتعقب خلاف ذلك سير المحاكمات واقتني ما ينشر عن وقائعها بأنتظام ولا ادري اسلمت ام ذهبت طعمه النيران او الاتلاف . واقول لك ان ضياعها او افتقارها الى من يحاول تأليفها حول المحكمات او جمعا لها لهو خسارة عظيمة لتاريخ هذا البلاد .
والقاضي (خليل امين)- وهذا عنصر مفارقة- كان خلف الاستاذ عزيز في منصبه يجلس على عين الكرسي الذي تركه له الاستاذ قبل بضعة اشهر وها هو يقابله الان متهما . لاحظنا من متابعة المحاكمة ان القاضي كان يخص (عزيزا)بألتفات وحسن ادب اباها على السيد كامل الجادرجي مثلا. وانفرد عزيز عن سائر المتهمين وخروجه بغرامه بسيطة وبفترة قصيرة من تعطيل الجريدة بالمقارنة الى احكام السجن والتعطيل الطويل الذي ناله الاخرون منه . واذكر اني ادليت بملاحظتي لعزيز وعزوت الحكم الخفيف الى رابطة الزمالة السالفة , مقارنا بالحكم الشديد بالسجن على الاستاذ الجادرجي. فأجابه:”ربما .لكن لم يكن هناك اي موجب لتحدي هذا القاضي الشرس كما فعل كامل .لم يكن هناك موجب لاستفزازه “.
وكان يشير الى موقف الجادرجي في قفص الاتهام واجاباته الجافة عن اسئلة القاضي المعتادة , النابعة عن كبرياء ذي سلطان شعبي والكرامة المتأتية من ثقل المسؤولية. والانكار المبدئي لحق محاكمته . كان هذا الانتقاد الوحيد الذي سمعته من عزيز للجادرجي وربما عكس الخلاف البين بين طبائع الاثنين .
وكما رأيت لم تكن صحبتي الاستاذ عزيز متواصلة بل بالاحرى متقطعة وعلى فترات زمنية . اولها فترة التعارف والاعداد لتأسيس الحزب . وثانيتها الفترة التي عقبت تأسيسه ولم تنقطع قط باستقالتي وبقيت حتى العام 1948 عندما اضطر الى الاختفاء على اثر الغاء اجازة الحزب واستمراره في النشاط السري بمن بقي من اعضاءه –على خط الماركسي الصريح , وهي فترة يحف بها الغموض حفلت بتشرذم وانشقاقات في الحركة الشيوعية . حاول استكناهها صاحب كتاب(الطبقات الاجتماعية القديمة )الاستاذ(حنا بطاطو) .وخلال هذه الفترة المنتهية بالرابع عشر من تموز 1958 – كان الرأي السائد ان عزيزا نجح في التسلل الى الخارج . ولكن ذلك كما سأبين جرى متاخرا واغلب الظن انه خرج من العراق قبيل صدور قرار اسقاط الجنسية عنه في العام 1954 او بعده بقليل ولم اكن اعلم بأنه ظل متخفيا في الحجرة السرية في داره ردحا من الزمن بعد الرابع عشر من تموز . وقد انبأتني شقيقتي بذلك وكتمت السر عني طوال سنوات عدة . فقد اسرت السيدة نورية زوجة عزيز بهذا لها في اثناء زيارتها ببغداد وكانت قد نمت بينهما علاقة ود متينة فأوصتها نورية بكتمان السر حتى عني .
في تلك الازمنة كان لبعض القوانين حرمة . ولم يسمع ان السلطة ضايقت ذوي المطلوبين منها بأي شكل من الاشكال للبوح بمواطن اختفاء المطارد.
وكنت احرص على الاجتماع به كلما حكمت الظروف بزيارة بغداد بعد 1958 , وفي حينه كان مشغولا بحركة انصار السلم التي رأسها . كما علمت انه كان عضوا مرشحا للجنة المركزية في الحزب الشيوعي فحسب . وفي الحزب السري كالحزب الشيوعي , لا يراعي في اختيار القيادة مبدأ القابليات والمؤهلات والشعبية وانما يكون القرار بيد القوة المهيمنة على مقدرات الحزب . اي مصدر القرار . ثم وبحسب رأيي ان (عزيزا) كان يؤمن بحتمية احلال النظام الديمقراطي التعددي والبرلماني ودوامه مدة طويلة قبل القفز الى النظام الاشتراكي عن طريق التطور لا عن طريق العنف .
والفترة الثالثة الذي استؤنفت خلاله علاقاتنا الشخصية كان في العام 1970-او بلاحرى في اواخر العام 1969 عندما اقبل وسيطا لاحلال السلام بين الثورة وبين السلطة . وقد توج بمفاوضات وختم ببيان الحادي عشر من اذار كما هو معلوم . وقد اشرت الى استقبالنا له عندما وطئ الارض المحررة من كوردستان قادما من بغداد . ولم يتسن لي في وقتها اكثر من تحية ومصافحة فقد انتقل رأسا الى مقر البارزاني واجتمع به ليلة او ليلتين .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة