كريم النجار
أفتتح على قاعة غاليري (out in the field في امستردام، المعرض الشخصي للفنان التشكيلي الراحل زياد حيدر نهار يوم الاحد المصادف ٢٧-٥-٢٠١٨ ويستمر شهرا كاملا، وستتخلله أمسية أستذكار للفنان يساهم فيها مجموعة من اصدقائه العراقيين والهولنديين، مع عرض عمل مسرحي مونودراما وفيلم تسجيلي عنه. وضم مجموعة كبيرة من أعماله التي أنجزها في الاردن وهولندا، بعد أن غيبه الموت المفاجيء بداية عام 2006.
في أعمال زياد، عالم متغير وإحساس جديد، فيه صخب واستفــزاز، وذروة الهـدوء في آن معا، لـكن ليس من السهولة تـلمس الخطوات في دخول هذا العالم النابض بقـوة التغـيير، ولأجل تلمس انتقالات زياد حيدر برؤية عـبر المفـردة والاسـلوب والتشكـيل ومعالجات لـيست نمطية، فعليك أن تتسلح بخبرة معرفية وذوقية لما تمخض عـنه التـشكيل العراقي المعاصر من ظواهـر وأعلام بَصَمت تأثيـراتها الواضحة في تطور هذا الفـن وبروزها على المستوى العربي والعالمي. في توليفاته جمع غـريب لمتـناقضات تنبض إرهاصا وحياة قلقة، تسكن روح الإنـسان المتمرد.. الـباحث عـن وجوده وسـط دوامة صراع قاهر وغير متكافئ يكـون في الـنهايــة ضحيـته، مـن أعـماله القديمة وتخـطيطاته التي تـظهر الجسد الإنسانـي مضغوطا تحت ثقل كتلته التي تحمل هـاجس الخـوف والدمار والحروب، والتي كانت تطغى عليهـا ثنائية الأسـود والأبيض، وبحركات مجتزأة كفعل المشرط في الجسد الإنساني، وبمهارة تقـنية في استعماله للكولاج والقطع لأضفاء الترميز المكـثف، وكأنها تعبير كما خرجت به حياته الصاخبة التي توزعته، وكأنه شخصية خرجت للتو من عالم سلفادور دالي أو استرياس أو ماركيز لتصب لعنتها على الواقع وتتمرد عليه. لقد عاش ولفـترة طويلة في العـزلة والسجن والتمرد، وهي احتجاجه المعلن لما وصل اليه الاسفاف وصعود أنصاف المواهب وتبوؤهـم سلطة الفن والثقافة في العـراق لفتـرة جاوزت العقدين، وهـنا نتلمس ثمار حرية الـفنان وانعكاسها على اعماله، وقـد استـطاع الـفنان زياد حيدر، وبفترة زمنية قصيرة أن يحقق أعمالا تظهر موهبته الفنية وحرفيته العالية، فنراه قد تحرر وبشكل سريع من كوابيسه السوداء الثقيلة، إلى تجسيدها عبر اللون والتناغم الموسيقي مع اختلاف الحدث، وهي رؤية جمالية وبصرية لدراما الحياة وسؤال الإنسان الدائم، بعيدا عن المباشرة والشعارات الزائفة.
كـان الفنان زياد حيـدر مهمـوما بـأشياء لا حدود لها، فـبعد غـربته الـتي جاوزت الخـمسة عـشـر عاما بـين الاردن وسـوريا وهـولندا، وبعد أن عاش غربته وعـذاباته داخل العراق ابان السـبعـينيات والـثمانينات، اسـتنـزفـت منه خمس سنوات في أقـبية سجن أبو غـريب بحكم سيـاسي جائر من محكمة الثورة سـيئة الصيت، ومثلها عـسكريا في جبهات القتال مع ايران إلى أن حانت فـرصة هـروبه من العراق بداية التسعينيات ليستـنشق هواء الحرية الـنقي، ويبدأ رحلـته الفـنيـة من جديد.
لم يشهـد بلد كالعراق مثل تلك المآسي التي مرت عليه وعلى أجيال ابنائه المتعاقبة، حيث ضاقت مـساحة الحرية والبوح والصراخ، واطبقت جدرانه الثقيلة الصماء على الضمائر والعيون والأنفس.. حرب تجر حرب ومعتـقلات وتـصفـيات وغيهب مجهول في كـل بيـت لها نـصيب وفاجعـة.. كان لمبدعي العراق ومفكريه نصيب وافر من هذه المآسي، حيث غاب من غاب، وانزوى آخرون، وترك العراق هائما تحت سماوات غـريبة من اسـتطاع النفاذ بجلده من المحرقة الكبيرة ليحافظ على نقاوة فكره وبقايا مقاومة لم يستطع طاغية العراق سحقها. أتـذكر الهجرة الكـبيرة لمثقفي ومبدعي العراق أواخر سبعينيات القرن الماضي بعد أن بسط الـدكتاتور ظله كاملا على شعب ومقدرات العراق.. هجرة لم يكن ابطالها فقط الشيوعيون.. بل شملت مستقلين وبعض القـوميين المخـتـلفـين مع اسلـوب وادارة النظام، واسلامـيين.. اكـراداً وعرباً ومن جمـيع الأديان والطوائف، لكـن في مقدمتهم بطـبيعة الحال اليساريون الذين خذلـتهم الجبهة والتحالفات التي لم تسـتند إلى أسس وطنية ومشاركة في الوطن. كان زياد حيدر ضمن من بقي منا داخل العراق بسبب المنع والـسجن والمضايقة، أنهى دراسته في اكاديمية الفنون الجميلة عـام 1976 ليبدا مشواره الفني منذ ذلك الوقـت، مشاركا في معارض مهمة داخل العراق وخارجه، مبدعا يحمل هما وطنيا ورؤية فنيـة جـسـدهـا بأعـمال تناصـر الإنسان وتحكي محنته. في لوحته المشهورة (انـفجار لعبة 240×120 سـم) التي رسـمها اواسـط الـثمانينات تعبير واضح عن الصرخة المدوية لسنوات العذاب التي واجهها في حياته، حيث ينفجر رأسه فجأة وسط اللـوحة وتتشظى منه كـرات أشبه بكرات البليارد عليها أرقام تمثل أعوام ميلاده وسجنه ورقـمه العسـكري وتواريخ مآسٍ أخر مرت بحياته، لوحة ادانة وتعـبير صادق وصارخ لكابوس الاضطهاد والخوف الذي عاشه جيل أراد الخروج من الـشـرنقة وتلافـيفها التي التفت على أعناق العراقيين. توفي الفنان زياد حيدر عن عمر 51 عاما وفي رأسه أحلام ومشاريع فـنية وأمل في العودة إلى العـراق لـيبدا مشواره من جديد، حيث حلمه بفتح مدرسة خاصة لتعليم الرسم للموهوبين من الشباب كما صرح في آخر حديث له لأذاعة العراق الحر، لكنه عاد ليحضن تربة العراق إلى الأبد ويبقى ابداعه في ذاكرة الفن الـتشكيلي العراقي وفي قـلوب اصدقائه من المثقفين والفنانين العراقـيين الذين فجعوا برحيله في هولندا وفي العراق وكل المنافي العراقية.