حسن منيمنة
روسيا قد انتصرت في سوريا. هي تمكنت من إنقاذ وكيلها الصعب، نظام دمشق، من سقوط كاد يكون محتوماً. والأهم أنها قد استفادت من أدائها في إدارة الأزمة السورية لتشكيل توازن على مستوى المنطقة بين قوى تبدو غير قابلة للتوافق: إسرائيل، تركيا، إيران. هو توازن دقيق من دون شك وقد يكون غير مستقر، إلا أن الحاجة ماسة إلى موسكو لتجنب الصدام بين إسرائيل وإيران، كما إلى احتواء الصدام بينهما إن وقع. وموسكو بالتالي في موقع تعزيز نفوذها سواء ارتفع التوتر أو انخفض.
وسوريا ليست من «الخارج القريب» الروسي، أي الدول التي انفصلت واستقلّت عن الاتحاد السوڤياتي والتي بقي لروسيا إصرار على قدر من النفوذ فيها. أي أن روسيا في سوريا تستأنف موقعها كقوة عظمى دولية. طبعاًِ، إذا كان المقياس القدرة المجرّدة، فإن الولايات المتحدة تبقى متفوقة تفوقاً كاسراً على هذه القوة العظمى الصاعدة. ولكن، وإن بدت المقومات العسكرية الروسية ضئيلة بالنسبة لما يقابلها لدى الولايات المتحدة على مستوى العالم، فإنها في سوريا في موضع ووزن مناسبين لتحقيق المقتضى وفق رؤية واضحة بعيدة المدى، فيما العمليات الميدانية المتعددة والتي تقدم عليها الولايات المتحدة في المعترك السوري تبدو وكأن كل منها ذات اندفاع ذاتي مفتقد للتوجيه الواضح المتجانس من القيادة السياسية في واشنطن.
وهذا الواقع الروسي الجديد في سوريا يعود إلى الدهاء والحنكة لدى موسكو، ولكنه أيضاً نتيجة ما يقارب التخلف عن أداء الواجب من جانب واشنطن. فإذا كان إحكام القبضة الروسية على سوريا وليد عوامل عدة، طارئة وأصيلة، فإن أحد العوامل الحاسمة كان افتقاد إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما للرؤية الواضحة وللمبادرة الواعية تجاه الأزمة السورية. وحالة القصور هذه ما زالت مستمرة إلى اليوم في عمق العام الثاني من إدارة الرئيس دونالد ترامپ.
ففي حين رحّبت روسيا بالمشاركة الميدانية لإيران وأدواتها، لتخفيف الأعباء الملقاة على عاتقها، فإن مصلحتها اليوم هي في قدر من التقليص للوجود الإيراني، حيث أن القوات المعادية أمست محصورة في مناطق متينة التطويق.
وقد سحبت موسكو إلى صفّها كذلك شريكا آخر لواشنطن مستاء منها، أي أنقرة. وانزلاق أنقرة من موقعها كحليف موثوق للولايات المتحدة إلى شريك لروسيا في الشأن السوري توازي مع انحدار لتركيا من ديمقراطية نشطة إلى مشروع سلطوي يسعى إلى المزيد من الحصر للسلطات. وأنقرة تستحق المساءلة للفرص التي بددتها للتنسيق مع واشنطن، بالإضافة إلى خطوات مريبة عدة وإلى امتناع عن الإقدام حين كان مستوجباً في أكثر من حالة، بما يشي بسعي مستتر للاستفادة من تحركات المنظمات المتشددة، بما فيها تنظيم «الدولة الإسلامية». ولكن هذا لا يعفي واشنطن البتة من مسؤوليتها عن تدهور العلاقة المفصلية مع أنقرة، والتي شكلت حتى أمس قريب ركيزة أساسية في منطقة الشرق الأوسط المضطربة. فحكومة الرئيس باراك أوباما، سواء من خلال الانكفاء أو عبر كلام ضبابي قابل لأن يفهم على أنه وعود، دفعت بنظيرتها التركية إلى توقع سياسة إقدامية لم تتحقق قط من جانب واشنطن في الشأن السوري. وفيما القيادة التركية، الميالة للتوّ إلى التفسيرات المؤامراتية، اجتهدت لتبين سوء النوايا لدى واشنطن، بدلاً من إدراك الضعف في قراراتها، جاءت المحاولة الانقلابية في تموز (يوليو) ٢٠١٦ لتبرهن عن العدائية المبيتة وفق قراءة أنقرة، والتي اندفعت بالتالي إلى إعادة ترتيب أولوياتها لتأمين الحماية لقيادتها، فتخلت عن الرؤى التي سبق لها تسويقها حول الدور التركي الرائد في المنطقة، ورضيت بالأسبقية الروسية في الشأن السوري ضمن تشكيلة جديدة تحصل فيها على قدر كافٍ وإن متراجع من النفوذ.
ومسار جنيڤ، والذي جرى تأطيره بقرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي ليشكل مسعى للإصلاح في سوريا، كان قائماً على فرضية أن النظام مأزوم وأنه لا بد من تغييره في نهاية المطاف، إنما عبر الوسائل السلمية. أي أن مسار جنيف اعتبر أن رحيل نظام دمشق أمر واقع وإن كان مؤجلاً، وأن دور المجموعة الدولية بما فيها روسيا، هو العمل على تحقيق الهبوط الهادئ لنظام فاقد الصلاحية. أما الواقع، فهو أن المساهمة الروسية في مسار جنيڤ كانت تهدف إلى تشتيت القرار الدولي من خلال شحنه بالإبهام وتقديم القراءات البديلة له. والمسألة، من وجهة نظر روسية لم تكن محض عرقلة، بل كانت سعياً حثيثاً إلى تأخير الحل، ريثما تستكمل روسيا نفسها خطة الإنقاذ والتعويم للنظام الوكيل لها.
وقد عمدت موسكو إلى إطلاق مسارين متوازيين لمنافسة جنيڤ والجهود الدولية. الأول هو مسار آستانا الأمني، حيث العنوان كان خفض التوتر، فيما المسار الثاني في سوتشي دعا للإعداد للحوار ولخطة عمل سياسية للإنقاذ. وروسيا في كل من آستانا وسوتشي لم تكن الصوت المعزول أو المطوّق بأكثرية تخالفه الرأي، كما كان الحال في جنيڤ، بل هي من أعدّ جدول الأعمال، وصادق على المعنيين، وأقرّ المشاركين. والأهم هو أن كل من آستانا وسوتشي قد بني على فرضية أن الانتفاضة السورية، وليس النظام، هي المأزومة والمحكومة بالزوال، وأن الهدف من التدخل الدولي هو احتواء سقوطها وتنفيسها وتأمين الهبوط الهادئ للحفاظ على وحدة التراب السوري وضمان استمرارية مؤسسات الحكم فيه.
ومن حق حكومة الرئيس ترامپ أن تشعر بواسع الامتعاض للحمل الثقيل في الملف السوري والذي خلفته لها حكومة الرئيس أوباما، إلا أن الواقع هو أنها بدورها لم تعمد إلى تصحيح الوضع. فالضربات الجوية الاستقصائية لاستعمال النظام للسلاح الكيماوي من شأنها تمييز ترامپ عن سلفه وإبراز إقدامه في مقابل تنصل من سبقه، وذلك أمام جمهوره الداخلي. أما في سوريا وعموم المنطقة، فهذه الضربات تبدو جوفاء دون عواقب. وفيما روسيا تظهر متجانسة في خطواتها وثابتة في مواقفها، فإن الانطباع المتكرر حول الولايات المتحدة هي أنها متبجحة، متذبذبة، ولا يمكن الاعتماد عليها.
وقد يكون الوقت قد فات لتتفوق الولايات المتحدة على روسيا في المسألة السورية، أو حتى لتبلغ درجة التكافؤ معها. والواقع أن الهمّ السوري بالنسبة لموسكو هو أكثر وطأة وخطورة منه لواشنطن والتي ما تزال تختبر إمكانيات الخروج المفاجئ من الساحة السورية أو تقترح الاستمرار بالتواجد على أساس الخدمات المدفوعة الثمن. أما الكلام عن قوة عربية قادرة على الردع في سوريا ضمن خطة تقودها الولايات المتحدة، فلا بد له أن ينتظر إتمام القوات المسلحة المصرية لمهامها المستطيلة للقضاء على الإرهاب في سيناء، وأن يترقب النجاح المتأخّر للقوات السعودية والإماراتية في استخراج نفسها من المستنقع اليمني.
فانطلاقاً من كل هذا، قد يكون واقعياً الإقرار بأن روسيا قد حققت الانتصار في سوريا فعلاً.
للولايات المتحدة في سوريا وجوارها حلفاء وشركاء ومواقع، ولا يجوز لها التخلي عنهم، ليس انطلاقاً من الواجب المعنوي وحسب، بل لإنقاذ ما تبقى من الصدقية الأميركية المستنزفة في عموم المنطقة. ولم يخفف وطأة اللامبالاة التي أبدتها واشنطن إزاء الاعتداء التركي على عفرين إلا الضوء الأخضر الذي منحته روسيا لتركيا للشروع بالهجوم. ولولا هذا التورط الروسي، لكانت موسكو قد حققت نتائج أفضل في انفتاحها على «قوات سوريا الديمقراطية»، والتي تشكل الاستثمار الأول للولايات المتحدة في سوريا.
لم يكن لسوريا، لسوء قدرها وسوء قدر الاستقرار في المنطقة، أولوية محسوبة لدى حكومة الرئيس السابق أوباما. والحالة اليوم تتواصل مع الافتراض الواهم بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد تلقّى الضربة القاضية، ما يجعل واشنطن تتصرف وكأن الأوان قد آن لإنهاء دورها في سوريا. أما التوجه الجامع للواقعية وللاستعمال الناجع للمنجرات، والدافع باتجاه الاستقرار في هذه الأرض الجريحة وجوارها، فهو أن تقدّم الولايات المتحدة اعترافاً تدريجياً بالغلبة الروسية في سوريا، وأن تعمد ضمن ذلك إلى التنسيق مع الجهد الروسي الساعي إلى إعادة وحدة الأرض والدولة في سوريا، شرط تأمين الطرف الروسي للمصالح الأميركية الطويلة الأمد، أي احتواء الوجود الإيراني في سوريا وإخراج أدوات إيران منها وإنتاج منظومة أمنية توفر الحماية الموثوقة للحلفاء، إسرائيل، الأردن، دول الخليج.
فالولايات المتحدة قد تخلفت عن تقديم الدعم الصادق للانتفاضة السورية يوم كانت فرص نجاح هذه الانتفاضة مرتفعة. فمن العبث توقع أن تقدم اليوم، بعد انخفاض فرص النجاح، على أي دعم جدي. بل واشنطن قادرة الآن وحسب أن تفسد الانتصار الروسي، وأن تدفع سوريا باتجاه المزيد من النزاع والقتال، وثمن ذلك المزيد من دماء السوريين، أو أن تلقي بثقلها للتخفيف الجزئي من مصابهم من خلال تعاون نادر مع روسيا. والدعوة لهذا المسار تنضوي على فائق المرارة لمن تمنّى الحرية لسوريا، غير أن هذا المسار قد يكون بالفعل ما تقتضيه الواقعية.
*عن منتدى فكرة ـ معهد واشنطن.