دراسة.. الجزء الثاني
نصيف فلك
الجريمة المقدسة
اغتصاب الاطفال واخصاء البشر وبيع وشراء الفتيات والصبيان وقطع اليد والجلد والرجم والذبح، كلها جرائم من أجل رفع كلمة الله والحفاظ على بيضة العقيدة.تاريخ يغص بالرؤوس المقطوعة إذ حالما تفتح أي صفحة منه تتدحرج الرؤوس وتتلوث اليد بالدماء بل حتى الحدائق والبساتين التي اغتصبوها من أهلها الشرعيين حولوها مقابر وها هو العبد(رهيف) يقول لجميل العراقي وهو يقوده الى جناح الاميرة فاطمة:( هذه الحدائق تراها مكتظة بالعشب والاشجار، لكنها ايضا مليئة بجثث العبيد). هنا يتغير مجرى الاحداث ويأخذ انعطافة لا تخطر على بال شياطين السرد أنفسهم، وهي أحداث مشحونة بطاقة خيال جبار: عند اكتشاف الطبيب الهندي ان عملية اخصاء العبد جميل العراقي فاشلة فقد بقيت خصية مسدودة العروق ومحتقنة، وحالما ينتهي الطبيب من عمله ويكمل العلاج تفرغ الاميرة فاطمة طلقات مسدس في صدر الطبيب الهندي بحجة التحرش :مات الشاهد الوحيد وبقي السر عند الاميرة فاطمة وحدها.
طبعا كل هذه الاحداث المدوية ونحن لم نتجاوز صفحة(32) لذلك تعدنا الرواية بالمزيد من طبقات السرد الجديدة،وهناك فضائح عالمية كبرى على وشك النشر والذيوع وكأن الروائي(زيد عمران) يختصر لنا سيرة الامبراطوريات الاسلامية وقصور الخلفاء ودموية الليالي الحمراء إذ تشعر الجارية )نعيمة) برابطة مع الطفلة ماكينزي الصغيرة، وهم يعدونها الى عرين الامير، شعرت برابطة تشبه ما(يشعر به الكهنة المصريين، وهم يجهزون عروس النيل،لإلقائها الى الوحش الساكن في باطن المياه…ص48). وهنا تنصحها الجارية نعيمة بان تنسى انها كائن حر وانسان عنده روح، تنصحها ان تنسى طفولتها وأهلها وبلدها ومدينتها، تنصحها وتقول (لا تكرهي نفسك، أو تحملينها ذنبا، فانت مجبرة على كل شيء من اليوم الذي وقفت فيه على دكة العبيد بجوار الكعبة).
الروي بلغة السينما
في رواية (دكة مكة) عندنا مستويين في شكل الروي، والرواي الذي سوف نكتشفه في صفحات الرواية الاخيرة هو الطبيب البديل(سيد جوني) عن الطبيب الهندي المقتول الذي يروي لنا القصة.ويكون هذا الروي في خطين متوازيين حتى نهاية الرواية،الاول خط الطفلة(ماكينزي/مكة)هي العالم الحديث بحضارته يغتصبه بدوي مجبول على العنف والكراهية ويرفض اصدار قانون تحرير العبيد ويحرج اصدقائه البريطانيين والاميركان امام شعوبهم، ويصر هذا الأمير البدوي على سلامة دينه والذود عنه في الابقاء على العبيد والرق والجواري والغلمان. نحن هنا امام عالم متحضر تقوده دول شريكة مع ملوك وامراء يغتصبون الاطفال ويقطعون الرؤوس للتسلية ويمارسون الشذوذ بكل أنواعه لمجرد التغيير من شدة التخمة والافراط الجنسي، وينحني العالم المتحضر للبدوي من أجل النفط والنفوذ في المنطقة. هنا يتساوى العالمين المتحضر والمتخلف في سلاح الجريمة ويتحمل كل منهما تدهور العالم وانحطاط الانسان.
يتجسد الروي في المشاهدة العيانية للاحداث وكأننا في سينما تعرض علينا قصة الكتاب فاللقطات السريعة والكبيرة منذ صعود ماكينزي على دكة مكة الى اغتصابها من الفرج والدبر الى قطع لسانها وتشويه وجهها بالاسيد من قبل زوجة الامير(فاطمة) بسبب الغيرة القاتلة من جمال الطفلة وحتى موتها في لندن بواسطة حقنة سم بطيء كالذي يستخدمه صدام مع المعتقلين الذين يطلق سراحهم. ثم الانتقالات السريعة بين وجوه الشخصيات وبين وحدات السرد وكأن القلم كاميرا يرصد حركات المكان والزمان والعوالم الداخلية للشخصيات خاصة عندما تلقي نعيمة آخر نصائحها للطفلة ماكينزي وهي تصف عقول الرجال:( الرجال يا مكة عقولهم ليس في رؤوسهم وانما في رؤوس قضبانهم. الرجل يفعل كل شيء من أجل هذه اللحمة الصغيرة المتدلية بين فخذيه. يخوض حروب،يسرق، يقتل، يخون، ويفعل كل الجرائم التي لا يمكن ان تخطر لك على بال، من أجل هذا الشيء: انا هنا بسببه، وانت كذلك، وكل هذا القطيع من النساء اللاتي ترينهم هنا. يتحول الرجل الى وحش مفترس، ما دامت تلك اللحمة منتصبة، وما هي إلا ثوان حتى ترتخي وتعود متدلية،كلسان كلب يلهث، وينتهي كل شيء، فيعود الرجل كائنا ضعيفا هادئا أبله…ص53). لكن الذي حصل بعد تلال النصائح ان اغتصب الامير مكة من الفرج ومن الدبر ودمر الطفلة البريئة الى الابد: دمار جسدي كبير ودمار نفسي وروحي أكبر.
سلاح الغباء من أجل البقاء
كلما نصعد سلالم السطور تتعقد الاحداث وتتصلد الحبكة من خلال سبك الجمل التي تبدو كشريط فيلم أكثر مما هي كلمات وجمل مقروءة، وتبدو الصفحات مثل شاشة ندخل فيها الى مكان يعج بالرذيلة ومتخم بالقذارة برغم قناع القدسية الخارجي حيث التهديد بالزوال هم العلم المتوارث أب عن جد،علم الجهل المقدس ضد العلم الحضاري بحيث يكون الجسد(المادة) تفنى وتستحدث حسب مشيئة الامير، لذلك يقول العبد(جميل العراقي) لخالته:( لأني تعلمت أن الغباء هو الشيء الوحيد الذي أبقاني على قيد الحياة طول هذه المدة…ص85). انها الغريزة العظمية التي تتفوق على جميع فنون البطش والفتك ومهرجانات قطع الرؤوس، دائما تنتصر الغريزة على الدين والفكر والعقل والايديولوجيات فتصون الحياة وتحميها من الابطال المتهورين من المجاهدين والانتحاريين، تصنع هذه الغريزة وجه الغباء فوق وجه الانسان المهدد بالفناء، لأن الذكي هنا أخ المقتول ومرشح قوي للذبح في أي لحظة حين يرتاب به الاقوياء الجهلة فيتم التخلص منه باسرع وقت.
الملفت في رواية(دكة مكة) ان الكاتب يدرك ويعرف ماذا يفعل وأين يضع ويرتب الاشياء كل في مكانه غير مستعجل مثل الكثير من كتابنا الروائيين فهو لا يترك شخصياته لمشيئة القدر ولنزوات الصدفة،ولا ينسى التفاصيل الصغيرة التي تشبع الاحداث بدم الصدق.الروائي (زيد عمران) تعلم الدرس من الروايات السيئة وراح يسبح عكس تيار الروائيين العراقيين،الذين ينسون أنفسهم من الصفحات الاولى بالاستطراد القاتل وبالهذيان السخيف فلا نعرف من هو المتكلم: هل هو الراوي أم الكاتب أم احد الشخصيات، ولا نعرف المكان الذي تدور به الاحداث ولا يعلن أو يوحي بالزمان والفترة التي نقرأ فيه القصة. من أولى بديهيات الكتابة معرفة ان الرواية حكاية قبل كل شيء، أقلها نجعل الحكاية إطار شغف للقارئ ثم نبدأ سردياتنا.اما ان نبدأ الرواية باستطراد بدون فعل ولا حدث ولا مشكلة ولا محنة،وهناك روايات تنتهي بلا حدث يستفزنا ولا شخصيات تقلقنا وتحرك العقل والنفس،هؤلاء الروائيين نقلوا عدوى الشعر الى السرد وفقدوا بوصلة الكتابة.
رواية(دكة مكة) هي البنت الشرعية لأم السرد العالمي( الف لية وليلة) من خلال تموجات الحدث كرمي حصى في بركة ساكنة فتتسارع المشاهد والانتقالات غير المتوقعة، ومن خلال المكان الخرافي والمناخ السردي،وكذلك الملامح الحادة للشخصيات والسلوك الشاذ. وهي رواية بلغة سينمائية جميلة لولا انجراف الكاتب مع جو المؤامرات والدسائس بين الامراء حول العرش،ولو بقي يتتبع حالات(ماكينزي) الجسدية والنفسية والروحية لتفرد في امتاع القارئ مع التواصل لحالات العبد(جميل العراقي) ومشاعر الحر بثوب العبد، ثم شعور العبد بزي الحر، والانتقال النفسي بين إرث العبودية والطموح الى التحرر والثأر من الجلادين مغتصبي الطفولة.