نصيف فلك
يبدو ان الروائي (زيد عمران) راح يفكر مثلي في الاستفادة من الروايات العراقية السيئة، قلت في لقاء قديم سنة(2007) وبعد سنين عمر كامل من القراءة وتفكير طويل توصلت الى: أكتب ما أحب قراءته. هناك الكثير من الروايات أقرأ منها عدة صفحات تصل الى الثلاثين ثم أرميها ساخطا من رداءة الاسلوب واحزن لتعب المؤلف ومعاناته وهو يكتب فاذا به يجعل القارئ ينفر منه ويهرب من قرائته وقد يتوب ان لا يقرأ لهذا الكاتب وربما يحلف ان لا يقرأ رواية بعد هذه التجربة المرة. أنا تعلمت من الروايات العراقية السيئة أسلوب كتابتي، لقد أفادتني كثيرا هذه الروايات بحيث رحت أسبح عكس تيار أسلوب كتابتها، وأكتشفت ان السخرية هي بطاقة الفوز بالقراءة،تعلمت من(دون كيشوت) التهكم والسخرية ومن (ألف ليلة وليلة) الاغواء والسحر في جر القارئ من عينيه حتى الصفحة الاخيرة، وتعملت الكوميديا السوداء من(شاري شابلن)، فكان المسرح والسينما والسحر يحضرون في كل عمل من أعمالي ،وفلسفة اللعب هي الاسلوب الامثل في الكتابة، حيث ما من شيء يخلو من اللعب سواء في العلم وفي الفن والادب والدين فقد كان المتصوفة من أشهر اللاعبين بالدين. كذلك ابتعد كاتب رواية(دكة مكة) عن أمراض السرد ووباء الشعر واكتشف أوهام النجومية وشخص الشعور بالنقص لنيل الشهرة. بدأت الرواية بفعل دراماتيكي ينتمي للسينما اكثرمن الادب بحدث قديم جديد ما يزال يعيش معنا كالبعوض والذباب، بدأت الرواية بصعود جارية عارية فوق دكة مكة ليراها تجار العبيد والجواري وعملاء الملوك والشيوخ والامراء، الجارية طفلة عمرها ثماني سنوات تحاول تغطية عورتها بيديها لكن النخاس يبعدها في كل مرة وهم يسمعون المعتمرين يطوفون حول الكعبة (لبيك اللهم لبيك). يقول الكاتب تحت العنوان الرئيسي:( رواية مبنية على أحداث حقيقية حدثت بين عام 1950و 1975 في مكة). ولغاية اللحظة لا يعرف الناس لماذا يصر المسلمين الحريصين على الشرف والحجاب والنقاب ان يجعلوا السبايا والجواري عاريات تماما فهل أمرهم ربهم بتقسيم النساء الى نوعين:واحدة محجبة منقبة لا تظهر منها حتى العيون، والثانية حاسرة الرأس وعارية تماما، فأين الفقه وكتب التفاسير وأسباب النزول وجبال الكتب عن الاخلاق من تفسير هذه الظاهرة التي بقيت عصية على الفهم؟
يثيرهذا الكتاب(دكة مكة) أسئلة كبيرة وخطرة ربما لا يجيب عنها سوى الله لأن بيته على بعد أمتار من سوق (سويقه) حيث المزاد يرتفع سعيره وإغراءه وتلعلع شهوته لعنان السماء على طفلة تحاول ستر عريها بيديها. اليوم تنصل جميع المسلمين من داعش بينما هم واجدادهم يقومون بأفعال داعش ويرتكبون نفس جرائمهم بورع وتقوى، ولا أعتقد ان رواية (دكة مكة) تقف عند هذا الحد وتفضح النهج الداعشي للامة بل تتجاوزه وتسبقه الى كهوف العقيدة التي لم يطأها قلم بشر وهو يغوص في عوالم محجوبة عن العين بملايين الجدران وممنوعة عن العقل بملايين الاحاديث والروايات الموثقة. كل هذا المهرجان في سوق (سويقه) بمكة وهو يوم عادي مثل بقية أيام السنة. وهذا الكتاب يفضح ويعري (25) سنة بحيادية السادي والمازوشي وهو يلتذ ويتلذذ بتعذيب القارئ لحد الاستمتاع بهذا العذاب، لحد النشوة العظمى للعقل وهو يسأل نفسه : من أنا وأين كنت وكم سجن يغيبني وهل هناك أمل في التحرر من غرف تعذيب الكتب المقدسة والانطلاق للحياة:( أصعدوها عارية، وأوقفوها على الدكة. كلما غطت نهديها وبضعها بيديها نكزها النخاس بن ناصر من خلفها…ص7).
إخصاء المستقبل
يجثم الماضي بكل ثقله الدموي مع الخلفاء والامبراطوريات والجيوش والفقهاء وحرس القصور والجواري والغلمان والعبيد، يجثم بكل اسلحته الفتاكة على الحاضر ويضعه في سجن الكتب الصفراء التي تقطر السم الزعاف فوق قلب الانسان المبتلي بالانترنيت والموبايل والصعود للقمر والبحث في المجرات عن كوكب للعيش، وبلوى الاختيار حسب الطلب للجنين ذكر ام أنثى وثورة المواصلات والذرة والانسان النووي والطفرات السريعة بعلم الجينات الوراثية، ثم ترى أمامك يوثقون شخص عاري الظهر على عمود أو جذع شجرة ويجلدونه. أنا شخصيا رأيت عقوبة الجلد التي تشبه:( عندما راح جميل العراقي يتلقى ضربات السوط بصمت وبرود كأن ظهره ليس له ص16)، رأيت نفس المشهد هذا في طهران في (بارك شهر) عندما شدوا شخص الى شجرة وقال الجلاد انه شارب خمر ثم انهال على ظهره بالسوط وبذات اللحظة مرت في السماء طائرة ركاب فاشتعل هول التناقض في رأسي: بين قمع وتخلف الماضي الرصين وبين أحدى منتوجات الحضارة، عرفت فورا ان جميع المسلمين بكل طوائفهم ومللهم وعقائدهم سجناء الماضي ولا علاقة لهم بما يجري من حولهم من تطور معرفي وسباق علوم وتكنلوجيا لا يدركها اليوم نزلاء العقيدة. وفي الرواية مزاوجة ذكية والتحام عضوي بين الماضي والحاضر من خلال سير الاحداث ومن خلال الاسماء ومن السلوك والصفات وكأن الماضي القوي المدجج بالعقيدة يسحق الحاضر ويكمم فمه وعينيه وأذنيه، ويرغمه على التشبه به ولبس زيه القديم مهما بدا نشاز وكوميدي ومنفر، ففي القرن الحادي والعشرين يلبس بعض الناس زي القرون الوسطى ويحملون السوط ويأمرون العبيد على إخصاء المستقبل (أمر عبدين بأمساكي ووضع خصيتي على حجر وبقي ممسكا بهما من الاعلى، من ناحية الذكر، بيده اليسرى، وضربهما بحجر آخر في يده اليمنى…ص18).
اغتصاب الطفلة الشرعي
رواية(دكة مكة) تعري نهج الصحراء وعقيدتها وتقاليدها وقبائلها بدون تحامل ولا حقد ولا مبالغة وبلا كراهية، إذ يدع الكاتب مياه السرد تتسرب من تلقاء نفسها لتروي أرض الحكايات العطشى.لا يستخدم الكاتب مفردات نابية ولا عبارات تجديف وجمل متورمة بسم الاختلاف الايديولوجي. يترك السطور تنساب وكأنها تكتب نفسها بدون تدخل من الكاتب وقد اشترى الامير قيصر هذه الطفلة الجارية(ماكينزي) التي لم يعجبه اسمها فيطلق عليها اسم(مكة) وذهب لاستشارة الشيخ آل سفود فقهيا عن الحلال والحرام في وطء طفلة عمرها ثماني سنوات. نصحه الشيخ الفقيه بعدما بسط امامه احكام الشريعة ورأي اصحاب المذاهب الاسلامية حيث قال:(حد ذلك ان تطيق الجماع. ويختلف ذلك باختلافهن ولا يضبط بسن)، يعني اعطاه الضوء الاخضر الالهي بممارسة الجنس مع طفلة ولا عبرة للسن وانما العبرة للطاقة في تحمل الوطء. لقد نسف فقهاء الصحراء شرائع حضارات الاولين والاخرين وجعلوا الله يتواطئ مع جريمة الاغتصاب بل ويشجع عليها.كل هذه المواقف والكوارث والمحن يأخذنا أليها الكاتب في شغف سردي ويدخلنا في مملكة الله بأريحية من دون لف ولا دوران لنتعرف على الاغتصاب الشرعي وكيف زجوا الله في نزواتهم وشهواتهم لكي لا يشعروا بالجريمة والذنب من اقتراف أبشع الاعمال.