وديع العبيدي
الشعر روح.. أثير.. وهم.. شيء غير معروض للّمس أو المشاهدة.. الشعر رؤية.. شعور يتولد بغتة ويختفي بغتة.. بعد الاف السنين من الذاكرة الشعرية أو الشعر اللغوي المنسوج من كلام وعرى قواعد وأنظمة أوزان ودوزنة حروف.. آن الأوان للإعلان ان الشعر ليس لغة وحذلقة.. والقصائد اللغوية والمساجلات الشعرية لم تنتج حضارة ولا أسست مدنية.. ملحمة جلجامش الشعرية لم تبن وطنا ولا انتجت شعبا.. وأوروبا لم تتطور بالشعر.. ولكن بالفكر والرواية.. حيث الفكر يعنى بالدراسة والنقد.. والرواية تعتمد تحليل الشخصية وفضح عيوبها..
الشعر حالة وجودية تتراوح بين نقطة الشعور وذروة الفكر.. هناك حيث يتقاطع الوعي ليكون همازة الوجود ويصنع المعنى.. فالشعر دالة وجود.. ولا وجود بلا وعي.. حيث الوعي هو المنتج الأول للحضارة.. وإزاء هاته الصلة بين الوعي والحضارة، تظهر هناك علاقة شائكة للوعي الوجودي في ظل الانحطاط.. علاقة سلبية بجدارة.. لا تتيح خفض مستوى الوعي [من دون تغييبه تماما]، ولا تفسح لتحرير الواقع من ترديه [بدون تغييب الانحطاط]..
قصيدة (شهادة وفاة) تشتغل على نقطة تعجيزية لملاقاة ذروة الوعي والاحباط الوجودي.. الذي انتج حالة من الاغتراب والتيه بين الانقباض والانبساط.. مثل موجات البحر.. قبل أن تنتهي بقرار وجودي واعٍ متمثل في (شهادة وفاة) شاعر.
الموت بحدّ ذاته هو قرار وجودي محض.. لا يتأتى لغير من امتلك وعي وجوده ومعناه.. الموت هنا.. ليس موتا فيزياويا أو اجتماعيا كرنفاليا.. وانما هو موقف فكري اجتماعي من حالة أو مستوى أو نظام عصي على القبول. وفي تلافيف القصيدة تتماوج أطياف الألم والتجربة المرة التي لا تجعل اعلان قرار الموت سهلا أو تلقائيا.. لذلك..
(شهادة وفاة) ليست قصيدة عادية ولا سهلة.. لا تصدر عفوية عقب جلسة مقهى عابرة.. جذورها تمتد داخل الوعي ، وانعكاساتها تمتحن طبقات تفكيره.. مؤلمة تلك المرحلة التي تمثل المواجهة بين الفرد [individual] وبين المجتمع أو العالم.
فالفرد هو ثمرة المجتمع.. والمجتمع هو مجموع أفراده.. ولكن عندما تنتهي تلك العلاقة باتجاهين مختلفين.. يختنق الفرد.. حيث تجربة الوعي والتجربة تحتفظ دائما بعناصر فرادتها وامتياز الاختيار والاختبار. على الفرد الحقيقي عدم الهرب حيث يلجأ الآخرون ويتنازل عن خصوصيته.. عليه ان ينتصر بالوعي لوجوده..
تقوم القصيدة على عدد محدد من المؤشرات الفاعلة في القصيدة والتي تمثل دعامات حمالة للأفكار المستغلقة وراء النص.. هذه المؤشرات تلخص ما قبل النص، وحالة النص، واحتمالات ما بعده..
لابدّ من تشخيص القول بعدم سهولة اسلوب فائز الحداد، وعدم تعقيده.. فالسهولة المغرية – أحيانا- تكون فخا لمن يستعذبها.. سهولة وبساطة شعرية فائز الحداد تصطدم بسهولة (تعابير) التي يحملها معانى تتجاوز المعروف والمألوف. فالقراءة الأدبية تقتضي الانتباه الى الاتجاهات الدلالية لمفردات النص وطريقة تسويغها من قبل الشاعر، وليس معانيها في القاموس المحيط.
الغيبة، الغيبة الطويلة، غائب، الغائبين- احد الدعامات الاساسية حمالة الفكر التي استخدمها الشاعر لبناء الصورة التي يريد توصيلها للقارئ.. علينا هنا الانتباه الى المعطى الصوري السيميائي للمفردة.. ان إعادة كتابتها بطريقة أخرى يسهل الفهم للقارئ، ولكن للشاعر في ذلك مأربه الخاص، مما يقتضي التأشير. هذه المفردة الواردة في السطر الأول للنص، تنمو وتتحرك، وليست جامدة أو ميتة الحضور. يلحظ أنها تطورت من (غيبة) إلى (غيبة طويلة)، ثم يقرر الشاعر رفعها من درجة – الإفراد- إلى درجة – الإطلاق-، وبذلك يقود المعنى إلى مشارف لم تكن متوقعة في بداية القراءة.
التراب، الأرض، الرمال، الحصى، احجار، يتأرض- دالة أخرى تساهم في بناء القاعدة الفكرية للنص.. هذه الدالة غير بعيدة عن المفردة السابقة لها. فإذا كانت (الغيبة) صورة خارجية للوفاة (الموت الفيزياوي)، فأن (التراب) ومرادفاته هنا هي – تأثيث- لحالة الوفاة (الغيبة). التراب هنا دالة مزدوجة الفعل. فالتراب هو أيضا مادة الخلق، في إشارة للولادة الثانية أو إعادة الخلق. وفي الولادة الثانية انتصار على دالة الموت نفسها، بعد قلب معادلات الواقع. ورغم اختلاف المعالجات المختبرية لمترادفات الأرض والتراب في القصيدة، والتي يمكن القارئ التوقف لدى كل منها، فأن الشاعر يرفع التراب من مرموزية الغياب إلى مرموزية الحضور [يستجدي التراب اقامة.].. فتلحق جملة مفردات تابعة..
إقامة، مكان، بستان- حيث تمثل مفاتيح قراءة ماضوية لمرحلة ما قبل (الغيبة).. ان الاقامة والمكان قد تعلق بإطار (الغيبة) داخل التراب، وهو احتمال، لكن تفاصيل النص المفعمة بالحيوية ومشاهد الحركة والحضور تؤكد معنى آخر. المفردة الأكثر لفتا للانتباه هي (البستان)- ية. ترد هذه المفردة مرتين في النص وفي صورة مصدرية تصف الفاعل المفعول في القصيدة.
في حسرته بستانية
في بستانية تفوق الزهور معنى
ان مبرر توظيف البستانية هنا هو تمثيل حالة التعامل مع – الأرض-. وهو توظيف ايجابي مبدع يذكر بوضع الانسان الأول في الفردوس.. [وأخذ الربّ الاله آدم ووضعه في جنة عدن ليفلحها ويعتني بها]. وخروج آدم من بستان عدن كان بمثابة (موت) له. وفي النص التوراتي كذلك [إياك أن تأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، لأنك حين تأكل منها موتا تموت]. هكذا يمكن فهم أو تأويل (حسرة بستانية) على أنها حسرة فقدان وانفصال عن حالة ماضوية (فردوسية) – مفقودة-. وفي السطور الثلاثة التالية لحسرته استعراض لملامح رعايته البستانية الرائعة.
استحضار هذا الجوّ البستاني بقدر ما حقق نقلة ابستمولوجية من حالة الموت والتراب، إلى صورة الفردوس البستانية الزاهية بالورود والطيور والعلاقة الحبية مع الأرض.. أنقذت النص من تهمة اليأس وقتامة الحزن إلى صورة استشرافية إشراقية تستبصر المابعد ولا تدفن نفسها في لحظة القنوط الزائلة؛ هي بيّنة غير مألوفة في المنحى الشعري العراقي المتسم بالحزن واستجدائه بأقصر الطرق. ثيمة تحسب لهذه القصيدة وللشاعر فائز الحداد.
أحبه هذا الفائز الذي لم يخن قلبه
هذا الحدددد … مات ولم يزل أعزلا ..
هنا تتداخل صفتا [البستاني والحداد] في مضمار العلاقة بالأرض وحدب العناية الفائقة.. أحدهما يستثير خصوبة الأرض ويحيلها إلى فردوس، والآخر ينحت من أحجارها أدوات تكنولوجية تساعده في البناء وتغيير صورة الحياة.. وبالإحالة على قصة (قايين)التوراتية والموصوف أنه كان فلاحا يعمل في الأرض نعرف أن [قايين أنئذ -كان- يبني مدينة، فسمّاها «حنوك» على اسم ابنه] ، ليكون بذلك منشئ ومؤسس أول مدينة ومدنية على الأرض. ومن بين أحفاده [(توبال قايين) أول صانعي آلات النحاس والحديد].
في عبارة (مات ولم يزل أعزلا..) إحالة على العنوان أو الثيمة الرئيسة للنص، وفي كناية عن خيبة البستاني الذي شكل الخروج من البستان مثابة – موت- له،، نجد أن – الحداد- الأعزل هو الآخر ينتهي إلى الموت. يوظف الشاعر شخصيته أو دلالة اسمه ضمن معطيات بناء النص وقيادته للمعنى المقصود. ولهذا التوظيف غايتان، احداهما فنية في خدمة النص، والثانية شخصية، تختصر الذاتي والموضوعي والعام في بودقة واحدة.
لا تكشف شخصية المتكلم عن نفسها وهي تقول [أحبّ هذا الفائز الذي لم يخن قلبه] والذي يموت بريئا من غير ذنب في النص أو الواقع – سيّان-. وللمقارقة، فهذا هو السطر الذاتي الوحيد في النص، الذي يستخدم لغة الشخص الثالث من البداية إلى النهاية. هل المتكلم هي الأرض، أو الطيور، أو الزهور، أو هي عشتار نفسها وهي تنتظر عودة تموز ليملأ الأرض ربيعا.. !!.
ثمة مستوى آخر يتوفر عليه النص في سياق أسئلة مباشرة أو محتملة.. وفي هذه الحال يمكن استنباط المعنى من الدلالة العكسية للسؤال.. مفتاح هذه القراءة هو سؤال..
لماذا تبكيه الطيور.. (كأنها) وحدها تنعى ظله.. هل ازدحمت الأرض بـ(الغائبين) وخسر المكان؟..
لماذا يستجدي التراب إقامة..؟
لماذا خانه الحب، فارتعش، وسنن قوافيه.. وهو المسنّ، بوجه صقر، وحاجباه أجنحة؟..
كيف تتحول الرمال إلى أضراس، والحصى إلى أنياب خطيئة؟..
لماذا الغيبة (فرمان).. ومن وراءه؟..
الطابع العام لهذه الأسئلة أنها استنكارية، قائمة على احتجاح ضمني، وسؤال مرير عن ضياع/ تزوير الحقيقة.. فالعلاقة بالطيور تعويض عن البشر (الغائبين) في مشهد الراهن، والاتجاه للسماء، تعويض عن خسارة الأرض..
في سؤال استجداء الأرض المفقودة، دالة الموت. الاستجداء هنا – وهو تعبير صارخ بالجرح والهزيمة أو اللامعقول، تفسير لمعنى قرار الموت، ذلك القرار الذي يوقعه (فرمان) خارجي. الوفاة هنا ليس قرار انتحار يحمله الشخص المعني ، بقدر ما هو (فرمان) يحمل صورة القدر التوراتي: [تكون شريدا وطريدا في الأرض.. فقال قايين: عقوبتي أعظم من أن تحتمل. ها أنت اليوم طردتني عن وجه الأرض.. ومن أمام حضرتك أختفي.. وأكون شريدا طريدا في الأرض، ويقتلني كل من يجدني.].
السؤال بحدّ ذاته يحمل موضوعية السؤال والاحتجاج، ويفضح لا معقولية جور الفرمان..
في النص التوراتي تعويل واضح على قانون السببيّة ذي البعد الفيزياوي.. وكل قرار أو نتيجة مسبوق بسند أو بيّنة تقصير أو مخالفة. لكن العلية والسببية غائبة في واقع – هذا- النص الذي يبدأ – من غير مقدمات- بفرمان (الغيبة). وهذا بحدّ ذاته مبرر كافٍ للسؤال. وأي فرمان هو هذا، فرمان الغيبة من الوجود أو الأرض.
غياب السببّة يعوضه حضور الخيانة في موضوع – الغائبين-، مقابل الوفاء (الفائز الذي لم يخنه قلبه).. تراجع المجموع الكرنفالي مقابل استفراد المختلف الناطق المتحد بضمير الأرض (بينه وبينه.. إشارة معلولة الضمير، يكادها مرغَما)..
ومن هنا يبدأ السرد العكسي في النص لتأكيد علاقة الشاعر البستانية والحدادية بأرضه وطيوره وزهوره .. وإذا كانت الأرض والتراب المجرّد هي معرض الفرمان والنفي، فلا قيمة للأرض بدون صاحبها.. بدون الفلاح الحداد الفائز كما تستجليه نهاية النص المفتوحة..
بستانية تفوق الزهور معنى!..
والمعنى هو الذي تشتغل عليه قصيدة فائز الحداد، في محاولة لتلخيص قضية النفي والاغتراب في مشهد الراهن، الحاكم المحكوم بالغيبة والوفاة.
أدناه نص الشاعر فائز الحداد بعنوان (شهادة وفاة)
وهو يستحضر فرمان غيبته ، ربما الغيبة الطويلة .. !!
يعشق أن يغادر في ما غائب منه .. لكنه يستجدي التراب إقامة ..
فلماذا تبكيه الطيور .. ؟؟! ..
وحدها الطيور تنعى ظله ..
هل أزدحمت الأرض بالغائبين وخسر المكان .. ؟!
فما زال بينه وبينه .. إشارة معلولة الضمير
يكادها مرغما ..
ففي حسرته بستانية !!؟
تقّلم حشف أظفاره المسننة؟؟
هل تتذكر أظافرة بمسامها ليسنها
وهو المسّنُ .. بوجه صقر وحاجباه أجنحة؟!
خانه الحب فارتعش وسنن قوافيه
أدرك .. أن الرمال أضراس الأرض
والحصى .. أنياب الخطيئة..
فليعض على احجارهِ التي سحقته
ولتكن الأرض لمن يتأرض كالحشرات ..
هو يستحضر شبابه العتيد ..
صبيته ، كرات الألم .. حتى آخر عقد الياسمين
كم صيّرته الخطوط ..عدلا
وسّرا يسر أصابع لا تبيح للرئات .. ولا لمراجل الكلام
أحبه هذا الفائز الذي لم يخن قلبه
هذا الحد … مات ولم يزل أعزلا ..
وذخيرته الشعر ..
الشعر عشيقته حصراً ..
في بستانية تفوق الزهور معنى