علي سعدون
في الاشتغال النقدي كما هو معروف، ثمة مناهج متعددة ومتنوعة يمكننا قراءة النص الادبي من خلالها . الامر الذي سيشير ببساطة شديدة ، ان رواية ما ، يمكننا قراءتها على وفق المنهج البنيوي ، وكذا الحال مع مناهج النقد الادبي الاخرى التي تختلف في أداء تلك القراءة وتقدم نصاً نقدياً يختلف عن سواه في منهج آخر.
الأمر ذاته سيتيحه النقد الثقافي «النقد السياقي» الذي يتطلّع الى ما هو أوسع من دائرة النص، فيهمُّ بقراءة النص باطناً وظاهراً..، ما يدور في فلكه وما يحيطه من أنساق تتعالق مع النص فتجعله حيّاً، إذا ما توفرت فيه القيمة الابداعية التي تشكّل جوهره وفحواه وشرط وجوده الأساس.
ازاء هذه الرؤية ، ستنبثق رؤى مختلفة لتغليب منهج على منهج آخر، وسيصل الامر عند عبدالله الغذامي – على سبيل المثال – الى التطرّف الذي يدعو الى موت النقد الادبي، وإحلال بديله (الاشكالي) النقد الثقافي، وهي دعوة يمكننا توصيفها بالانحياز الكامل للنقد الثقافي بوصفه ذروة الأداء النقدي بسبب شموليته وكونيته التي لا تحدّها حدود في قراءة النص الإبداعي.
نعم ، سيهتم النقد الثقافي بالسياق الذي يتواجد فيه موضوع النص وعلاقته بحياتنا في معظم الحالات، لكن ذلك لن يجري بالتهويم والتغريد بعيداً عن العتبات النصية على الاطلاق. ولن يتحرر من تلك العتبات اي منهج نقدي ، مهما بلغت نزعات تطرفه في الاختلاف المنهجي عمّا سواه. ما يعني ان النقد الثقافي (السياقي) سيكون بمأمن عن إتهامات من قبيل عبوره فضاء النص الى ما يحيطه من أنساق أخرى وتجاوزه جميع العتبات النصية . انه ينطلق منها ويحتويها ويسبر أغوارها في اشتغاله عن انساقها المحيطة بالنص نفسه. الامر الذي سيشير ابتداء ، الى ان النقد الثقافي ، هو نقد ادبي مكتوب عن نص ادبي ، تتسع دائرة اشتغاله بسبب اهتمامه بالنزعات الثقافية وجدلها في الحياة بمناسبة النص. ما يعني ايضاً ، ان النقد الثقافي ينشغل بالنص من دون ان يحيد عن عتباته ودلالاته وموضوعته الأم ، وسيشير ضمناً وصراحة الى الركّة البلاغية هنا ، أو سمو الخطاب هناك . وسينبثق هنا سؤال مفاده : ألا يوجد تداخل منهجي بين الأداء الثقافي والنصي، أعني بين السياق والنسق ؟
النقد الثقافي، سيسهب كثيرا في الحياة والفلسفة والسوسيوثقافي بمناسبة النص . وعلى الرغم من انه لن يظل قابعاً في حدود العتبات النصية ، إلا انه سيشبعها تحليلاً وقراءة من دون أن يغفل شاردة أو واردة تختص بوعي القارىء ومشكلاته المعاصرة والتاريخية ، ويستثمرها بقوة لافتة . النص الابداعي مناسبة عظيمة لهذا النقد ليقول شيئا عن الحياة . وكأنه بذلك، يردُّ على ما يؤدّيه النقد الادبي في إحصاءاته المملة التي تنتهي بإحصاء عدد الأفعال المضارعة وأفعال الأمر وحروف الجر في النص وكأنها من فتوحات الادب العظيمة التي لا يضاهيها شيء !! . إجراء لا يمكن ان يتسلل الى وعي القارئ وهمومه اليومية التي لن تنساق الى جبروت البلاغة القديم ، وقيمه الراسخة . ولن تنشغل بطبيعة الحال بعلاقات الجملة البلاغية المغلقة على نفسها بآفاق نصية بالغة الوضوح الى الحد الذي تتربع فيه بوصفها (كلائش ادبية) أكثر من كونها تعبيرات عن مخيلة فذة في الخطاب الابداعي .
وعلى الرغم من ان النقد الثقافي ، هو أبن النصيّة بأمياز ، ابنٌ يتمتع بقدرة هائلة على فهم العمل الادبي والانطلاق به ومن خلاله الى الفضاء الاجتماعي الأوسع، الفضاء الذي تحيطه الثقافة والمعرفة بجناحيها الكبيرين، فتجعله جديرا بالقراءة ، وجديرا بأن يكون ابداعاً حقيقياً يتفاعل معه القارئ بطريقة مدهشة ولا يتفاعل مع سواه . وثمة امثلة متعددة لنوعية الخطاب الذي يعتمده النقد الثقافي المزدان بطراوة العبارة وقوتها وحميميتها التي تلامس الروح والعقل على حد سواء. وسيجري ذلك من خلال لغة تحفر بطريقة ابداعية عندما تنطلق لتتحدث عن الحياة بمناسبة النص، وبالتالي تنتج نصّاً إبداعياً جديراً بالمعاينة والقراءة والمعرفة.
هذه ليست دعوة لإحياء مقولات (الغذامي) عن موت أدبية النقد ، النقد الثقافي جزء من سمو تلك الادبية المشرقة التي ترزح تحت وطأة التنظير السائد والقديم لتسطيح اهمية وجود فسحة ثقافية عظيمة، تطل من خلال تلك الادبية التي يراد لها ان تبقى حبيسة الدرس القديم . انها ببساطة شديدة (بوح) في الدفاع عن مفهوم الثقافة داخل النقد .، أعني سمو النقد الذي يتعالق مع الحياة فينفع القارئ ، لا الذي يظلله بغلالة من احصائيات مكررة ومملة بوسع اي باحث ان يقوم باقترافها بسهولةٍ ويسر . وبخلاصة للقول في جدلية السياق والنص اقول : ان نقداً لا يضع يده على جرح القارئ سياسياً او اجتماعياً او دينياً ، لا يمكنه أن يكون نافعاً على الاطلاق . وستجري عملية نكئ الجراح هذه ، بمناسبة النص نفسه ، النص الذي يتيح للنقد الثقافي أن يخاطب الحياة ولا يخاطب نفسه .