حاوره: حيدر ناشي
تبوأ شيخ النقّاد العرب، أستاذ الادب العربي الدكتور صلاح فضل ، المكانة العلمية والثقافية الكبرى في عالمنا العربي بنظرياته الادبية الاصيلة ومؤلفاته وترجماته، وكذلك رئاسته ومشاركاته للعشرات من المؤتمرات الادبية في شتى دول العالم، التقته الصباح الجديد في القاهرة.
* اتجاه بعض كتّاب القصة والرواية الى النقد الادبي، هل تعدّه عجزاً في مجالهم فأستسهلوا وظيفة النقد؟
-أظن إن التوجه الى الصحافة وسهولة تحبير الصفحات الطويلة، من دون مراجعة للنفس والاتكاء على ثقافة عميقة ومعرفة علمية مؤسسة منهجياً، هو الذي يغري هؤلاء الكتّاب بأحتراف ما يبدو ظاهراً كتابة نقدية، وهي في الحقيقة ثرثرة لا أكثر. الكاتب المبدع يجب أن تتوفر لديه الموهبة الخلاقة، يُولد أو يكاد يولد بها، لابد من وجود لمسة من العبقرية، نفحة من نار الخلق في قدرة التكوين، وأما تطمرها الاحداث والظروف الشخصية، أو يشعلها الوعي وتزكيها التجارب، فيمتلك نوعين من الخبرة لا غنى عنهما، الخبرة الوجودية بالحياة بحيث يستطيع النفاذ الى طياتها وأعماقها وتعقيداتها مدركاً ببصيرة ثاقبة أسرارها، والقدرة الجمالية على صياغة كل ذلك بأشكالٍ فنية مبدعة ومتجددة ومدهشة للقارئ، وإذا لم يغذّ صاحب شرارة الموهبة قدراته بهذين النوعين من الخبرة سرعان ما ينطفئ. إن من يوظف طاقاته الفنية في ما يقارب الكتابة النقدية، لا يكتب نقداً حقيقياً، لان النقد مهنة وحرفة وله مناهج، فأستسهاله بوصفه ثرثرة سفح له وامتهان بطبيعته، ومن يفعل ذلك يريق دمه هباءً وحبره نثاراً. الناقد الحقيقي لا يخلو من موهبة ابداعية، إذ يملك الشرارة نفسها لكن وعيه النقدي يسبق قدرته الابداعية، وقد يكون هذا الوعي عاتياً وظالماً فيطفئ قدرته على الابداع، حيث يمارس الناقد جبروته على نفسه، فيحكم عليها بقسوة، فإذا كتب شعراً لم يرضه، وإذا كتب غير ذلك لم يشبع طموحه، فيئد مواليده الصغيرة، أما الناقد الذي يجمع بين النقد الحقيقي والكتابة الابداعية فمن النادر جداً ان يتفوق بالامرين، في كل الثقافات هنالك ولع من المبدعين في كتابة النقد، لكنه يحلّق بجناح مهيض، ودائماً يثير قدراً من الاشفاق والسخرية عندما يكون أحد جناحيه مرتفعاً شامخاً، والآخر شبه مكسور أو مهيض.
* استشرت حمى النقد في الاوساط الادبية، واستعمل بعضهم القوالب الجاهزة في نقودهم، ترى الى أين مآل النقد الادبي كونه علماً قائماً بذاته؟
– هناك بيئتان موآتيتان لبزوغ نقّاد حقيقيين، البيئة الاكاديمية، لكن وجود النقّاد فيها ليس ميسوراً في عصرنا الراهن، فمن بين مئة استاذ يقومون بتدريس الادب يصعب العثور على ناقد واحد، مع إنهم جميعاً يحفظون القواعد ويعلمونها للطلاب، لكنهم لا يملكون الوهج المعرفي والبصيرة النافذة، عيونهم تتجمد على الكتب، وتعمى عن النفاذ الى الحياة وأكتشاف جواهر الابداع بالواقع الثقافي المحيط بهم، لا يستطيعون التمييز ومعرفة القيم بدقة، فيستوي لديهم كتاب عبقري مع ثرثرة فارغة، وأحياناً تكون الثرثرة موضوعاً لدراساتهم في الجامعة، لذا أشعر تجاههم بالاشفاق والرثاء، أما البيئة الثانية التي تفرز نقاداً هي مختبر الحياة الثقافي، ألذي أصبح يتجسد ألان في الصحافة والاعلام، وهذه أيضاً بيئة شديدة التشويش والرداءة، الكتابة فيها متاحة لكل وصولي وانتهازي ومن يستطيع التمويه والتحريف والتناقض وصياغة مقولات مليئة بالمجاملات، حيث يمكن وجود عمل واحد تقرأ عدة مقالات ترفعه لعنان السماء، وأخرى تخسف به الارض نتيجة تفاوت المصالح والانحيازات، ليأتي ناقد حقيقي يمتلك حاسة التمييز وقدرة التقييم ودقة المعيار فيضع الامور في نصابها ولابد أن يصدقه التاريخ. إن المصداقية يصنعها الوسط الثقافي بتغيراته وتحولاته وفوق كل ذلك التاريخ، فهو الذي يمنح الخلود لبعض الاعمال مهما كان رأي المعاصرين فيها، ونأخذ مثالاً أبو الطيب المتنبي اعظم شعراء العرب، إذ لم يثر احد في تاريخ الشعر العربي من الاحقاد والضغائن والاتهامات مثله، حيث يقال إنه أخمد ذكر ألف شاعر معاصر له، لكن هؤلاء لم تكن السنتهم قصيرة معه، كانوا يسرقونه بألسنتهم، وبرز منهم بعض الكتّاب الذين كتبوا عنه واتهموه بالسرقة، وهي الفضيحة الاولى لأي شاعر، فألمفارقة الملفتة للنظر التي تحتاج الى حل، إن أعظم شاعر في تاريخ العربية، أدانه معاصروه وعدوه سارقاً، إلا إنني وفقت إلى حلها في أحد ابحاثي، فبينت بطلان هذه التهم، المتأتية نتيجة احقاد المنافسين له، وتنحلات الرواة فيما بعد. التاريخ هو الحكم الثاني لتحديد القيمة، وحاول النقد الحديث الغاءها لكنه لم يستطع محوها، لانها ليست جامدة أو واحدة أو دائمة، وليست عنصراً متفرداً، هي منظومة من العناصر تتبدل ببطء وتتغير بأيقاع محدد.
* يعتقد البعض إن النقد الاكاديمي جاف لايحتوي المرونة في تفكيك النص، ومعتمد على قواعد غير قابلة للنقض او المناقشة، مارأيك بهذه الطروحات؟
– في اجابتي على السؤال السابق ستجد انها تتضمن ماهو أشد في نقد النقد الاكاديمي، وأنا اظن إنه لايوجد شيء اسمه قواعد النقد. أذكر في شبابي كنت مولعاً بأن أكون ناقداً، وجدت كتيباً اسمه ( قواعد النقد الادبي) للكاتب الانگليزي (لاسل آبر كرمي) وكنت حينها طالباً في المعاهد الازهرية قبل الانتقال الى جامعة القاهرة، فتخيلت إن النقد الادبي له مجموعة قواعد احفظها وبهذا اصبح ناقداً، إلا إن خيبتي كانت شديدة، فالكلام الوارد في هذا الكتيب لا يحتوي على أي قاعدة. النقد ليس قواعد على الاطلاق، فهو عبارة عن فلسفات جمالية ومناهج علمية وقدرات ابداعية على معايشة النصوص وقراءتها وتأويلها، وهذا ما كشفت عنه ثورة النقد الحديث التي قامت بها (البنيوية) وبناتها الجميلات ممن يطلق عليهنّ (ما بعد البنيوية) منذ ذلك الحين تبيّن لي في الاقل، إذ لا اعرف هل الرؤية واضحة عند الاخرين أم لا؟ إن النقد قد اصبح في جزء كبير منه ممارسة علمية. يحلو لي دائما تشبيه النقد بالطب، فالطب في العصور القديمة ينظر الى الانسان بأعتباره كائناً مزدوجاً من جسم وروح، فيغرق نتيجة لهذا البعد الروحي في الغيبيات، ويصبح جزءً من الفلسفة، لغاية مجيء العالم الفرنسي (كلود برنارد) نهاية القرن التاسع عشر وكتب كتابه الشهير عن الطب بوصفه علماً تجريبياً فقال بما معناه «نحن لانعرف ماهي الروح، والطب لا شأن له بها، الطب يتعامل مع المادة، جسد يمرض تدخل فيه بعض الدواء، فيصح او يزداد مرضاً او يظل على حاله، وتجري عليه التجارب حتى تعرف كيف تتعامل معه» فأخرجه من ميدان الفلسفة، واصبح الطب منذ تلك اللحظة علماً، وانتهى الطب الروحاني او تُرك للمنجمين والمحتالين، بالتوازي مع ذلك قررت البنيوية إن الادب ليس مجموعة من العواطف المتوهجة أو عدداً من الافكار أو كياناً ميتافيزيقياً، وإنما للادب جسد وهو اللغة التي لها أسرارها بطبيعة الحال، كما إن هناك إنسانا ميتا وآخر حيا، اللغة ايضاً لها حياتها، والنقد لا يدرس اللغة الميتة بل يدفنها ويغطيها بطبقة سميكة من التراب، وهذا لم يكن سهلاً، إنها ثورة حقيقية في الفكر النقدي. أنا اعجب ممن يقولون إن البنيوية قد ماتت، المذاهب التي تكتشف جزءً من الحقائق العلمية تتوالد وتتعدد وتُراجع، لكنها لا تموت، لان ما يحدث في مذاهب الفكر والادب والنقد يوازي الى حدٍ ما مذاهب النظريات الطبيعية، فالقانون الطبيعي ليس خالداً لكنه يتغير بالتدريج وطالما كان قادراً على تفسير الظواهر فهو كامل ومكتفى به، وإذا خرجت عن اطاره بعض الظواهر نتيجة العجز فلابد من تعديله لكي يشملها، لكن لا يستطيع احد مطابقة العلوم التجريبية مع النظريات الادبية، ولايمكن إخضاع الاداب والفنون لها، إلا إن التطور في نظريات الادب ينحو كل يوم الى اكتساب ارض جديدة وإدخال بعض المساحات من الادب في منطقة العلم، برغم إنه لن يخضع تماماً الى العلم ولسبب بسيط لانه يرتبط بالمخيلة وهذه تستعصي على التحديد ولايمكن لاحد القبض عليها والتنبؤ بقوانينها ومعرفة متى تنطلق وإلى أي مدى تستطيع الوصول.
* تقننت الصورة الشعرية في قصيدة النثر، فتحولت الى محض سرد لانعرف جنسها الادبي احياناً، الام تحيل أسباب ذلك؟
– من الذي قال إن الصورة الشعرية في قصيدة النثر اقتصرت على الجانب السردي؟ هل انتهيت إلى نظرية كاملة عن قصيدة النثر وأدركت كل اسرارها ووضعت قواعدها وأستقر أمرها لدى كل الدارسين؟ لا أحسب ذلك، لان قصيدة النثر في صلبها تجربة لا يقصد بها التصوير لانه قائم في شعر ما قبل قصيدة النثر، وبدرجاته القصوى العظمى في قصيدة التفعيلة ومن قبلها القصيدة العمودية، فلم يكن الشعر على الاطلاق خالياً من الصورة، ثم إن هناك نوعين من الصور (استعارية وسردية) والشعر القديم عرف الصور السردية التي لا تعتمد على المجاز والتشبيهات. تجربة قصيدة النثر في صلبها تهجر الايقاعات المحسوبة المنظمة في القصيدة الخليلية وقصيدة التفعيلة، لكي تبحث عن إيقاعات جديدة، حتى ألان في ما أعرف، إلا إذا كان هناك أشياء لا أعرفها وهذا إحتمال قائم جداً لم يحدد لنا لا شعراء قصيدة النثر ولا نقادها ماهي الاكتشافات التي أتت بها في البنى الايقاعية؟ وهل يمكن ضبطها وتحديدها ومعرفتها مثلما ضبط الفراهيدي الاوزان الاخرى أو مازالت تجارب؟ شعراء قصيدة النثر ينجحون حينما يكتشفون الايقاعات الجديدة ويوظفونها لكي تشبع حسّنا ليس الدلالي فحسب لان اللغة تصنع ذلك، ولا التخيلي فقط وإنما الموسيقي، فالشعراء المفتقدون لموهبة الموسيقى غير صالحين لقول الشعر بأي شكل من أشكاله، وفي مقدمته قصيدة النثر، لان الشعر في جوهره منظومة من القيم منها الايقاع، ولا اقصد الايقاعات الخليلية فهذه ما فُرز وحُدد وعُرف، إنما الايقاعات بكل اشكالها، ظاهرها وباطنها، خفيها وبارزها.
* هل تعتقد إن المسابقات الشعرية أحيت الشعر بعد الغزو السردي في عصرنا الراهن؟ أم انها انزلت الشعر من عليائه فأبتُذلت الصورة والمفردة؟ – أظن إن المسابقات الشعرية والجوائز الادبية والمشروعات الثقافية الكبرى أثرها لابد أن يكون إيجابياً، وهناك بعض الجوائز التي تحتكم الى قضاة غير أكفاء وغير منزهين، فيجيزون أعمالاً ليس أفضل مما في السوق من إنتاج والاسباب كثيرة، أيدلوجية وطائفية وغير ذلك، وهؤلاء يطعنون أنفسهم بخناجرهم، فيسيئون للحركة الادبية والثقافية. المسابقات بشكل عام تكتسب أهميتها وقيمتها من حسن أختيارها للمحكمين، فأذا اختارت محكماً ضيق الافق، محدود الثقافة، يخضع لانحيازاته واكراهاته، سوف تكون نتيجة المسابقة محبطة، وسوف يعمى عن كون المسابقة دافعاً وحافزاً قوياً وأداة جيدة للاحياء الابداعي وتنمية المواهب، لذا يجب أن يكونوا حكاماً يتميزون بالنزاهة والكفاءة والعدل، وإدراك حقيقة الشعر. هناك مسابقات تحيي الشعر والادب العربي بشكل عام، وحينما أتحدث عن تجربة (أمير الشعراء) كاد قبلها صوت الشعر خفت الى حدٍ بعيد، وأنصرف اصحاب المواهب الشعرية إلى كتابة فنون اخرى تستطيع أن تضمن لهم الذيوع والانتشار والحضور الثقافي، لكن بمجرد أن بدأت المسابقة جدياً، وأعتمدت على معايير موضوعية وجهت لها سهام النقد، إلا إن في نهاية الامر حركت الاجواء الراكدة فكنا نتلقى في كل دورة ما لايقل عن (2000) قصيدة من كل أنحاء الوطن العربي، يظن أصحابها إنهم شعراء، مهما كانوا حسنيّ النية، لكن منهم في الاقل 10% وهم (200) شاعر لديهم موهبة، و1% يمثلون (20) شاعرا، شعراء حقيقيين، وتفرز في نهاية الامر (5) شعراء الذين يبقون للمرحلة الاخيرة، كل منهم يمثل وعداً حقيقياً منجزاً للشعر العربي، في سبع دورات قدمنا ما لايقل عن (40) شاعراً حقيقياً، وهؤلاء ليسوا قليلين، وبعضهم الان نجوم يسبحون في أفلاك اوطانهم والوطن العربي، قد يخمد بعضهم ويخيب ظننا، لكن بالنتيجة اصبحت الصورة بعد عشر سنوات مختلفة عما كانت عليه من قبل. لا أعرف مسابقة أخرى قامت بهذه المهمة في الشعر الفصيح، سمعت هناك في المغرب العربي بعض المحاولات لكن لم يقّدر لها الاستمرار، وفي المشرق العربي سمعت بعض المحاولات وفي مصر أيضاً، وكلها تصب في صالح انتشار المبدع والابداع العربي.