إغيكان آلان فاي
في شباط/ فبراير الماضي، تباهت مصادر تركية موالية للحكومة بفخر بأن وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو تعهد بتقديم المبلغ الأكبر من المال في المنطقة خلال مشاركته في مؤتمر الجهات المانحة الدولي حول إعادة إعمار العراق في مدينة الكويت. وقد جمع الحدث الذي دام ثلاثة أيام ممثلين عن المجتمع المدني ومسؤولين حكوميين رفيعي المستوى وعدد من المنظمات غير الحكومية. وقد تمّ جمع 30 مليار دولار من أصل مبلغ 88 مليار دولار الذي طلبته الحكومة العراقية. وقد غرّد جاويش أوغلو قائلًا إن العراق «دولة مجاورة وصديقة وشريك موثوق، سنقف دائمًا إلى جانب أشقائنا العراقيين». ولم يفاجئ هذا التعهد الخبراء، إذ إن نمو تركيا الاقتصادي وأمنها المحلي وتطلعاتها الإقليمية مرتبطة ببغداد وإربيل على السواء.
وكانت العلاقات التركية في العراق أحدثت توازنًا بين «حكومة إقليم كردستان» العراقية ومقرها إربيل والحكومة الفيدرالية في بغداد. وكما قال السفير الاميركي السابق إلى أنقرة جايمس جيفري «تركيا تريد إبقاء الطرفين في صفها». في هذا السياق، صرّح بلال وهاب، وهو خبير في شؤون العراق وزميل في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» قائلًا «لم أتفاجأ [بالتعهد] لأن العراق، ولا سيما «حكومة إقليم كردستان»، كان ثاني أو ثالث أكبر شريك تجاري لتركيا». وفي عام 2010، ساءت العلاقات التركية مع بغداد خلال حملة رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وإعادة انتخابه بسبب استبداده المتزايد ونشره للخطاب الطائفي المدمر في العراق.
وتحاول تركيا منذ فترة الاضطلاع بدور بارز مع جارتها الجنوبية. فعلى سبيل المثال، خلال هجوم الموصل في تشرين الأول/أكتوبر 2016 ضد «داعش»، حاولت أنقرة القيام بالتحرك المطلوب، في وقت أصرّ فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على رغبته في مشاركة «القوات المسلحة التركية». وفي ذلك الوقت، واجهت هذه الرغبات معارضةً دولية صريحة من قبل الغرب وما تبقى من المشاعر المعادية لاستعمار الإمبراطورية العثمانية في بغداد.
غير أن أنقرة وبغداد حافظتا على علاقة من التسامح تخللتها فترات من التوترات لغاية 25 أيلول/سبتمبر 2017، عندما قاد رئيس «حكومة إقليم كردستان» مسعود برزاني الاستفتاء الكردي حول الاستقلال عن العراق الذي أثار جدالًا واسعًا. وقد عزّز ذلك إلى حدّ كبير المخاوف التركية من أن حكومة كردية عراقية مستقلة قد تطلق مفعول الدومينو المتسلسل الذي يثير حماسة الاستقلال في أوساط الأقليات الكردية الكبيرة في سوريا وإيران وفي نهاية المطاف في تركيا. وللحدّ من هذه المخاوف، أعلنت طهران دعمها الكامل لأنقرة وبغداد حيث فرضت بنحو مؤقت حظرًا شمل عدة أصعدة على المنطقة المستقلة. وكانت الضربة النهائية القاضية الموجهة إلى الأكراد العراقيين إعلان وزير الخارجية الاميركي السابق ريكس تيلرسون أن «التصويت والنتائج تفتقد إلى الشرعية» بسبب التوقيت الحساس للاستفتاء.
وبحلول نهاية أيلول/سبتمبر 2017، أمالت تركيا ميزانها الدبلوماسي من إربيل إلى بغداد. ومن دون دعم دولي، فشل الاستفتاء الكردي العراقي المعزول فشلًا ذريعًا. ولحسن حظ أنقرة، لم يعق رفض الأتراك لمهمة برزاني الصفقات التجارية بين «حكومة إقليم كردستان» وتركيا التي تصل قيمتها إلى 2.5 مليارات دولار. لكن التحول السريع في العلاقات بين أنقرة وإربيل لم يقلل من الحساسية بين أنقرة وبغداد حيال التعاون الوثيق من خلال الاستفادة من الأرضية المشتركة الناتجة عن جهود تقرير المصير التي بذلها الأكراد. هذا وذكر وهاب أن «تركيا لم تخسر «حكومة إقليم كردستان»، لكنها ربحت في الوقت نفسه العراق [بغداد]. أعتقد أن ما حققته تركيا هو مكسب لها». وبعد أسابيع قليلة فقط من الاستفتاء، زار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تركيا. وقد دعم التوصل إلى اتفاق تسهم من خلاله بغداد في محاربة «حزب العمال الكردستاني» الإرهابي، كما أطلق محادثات لاستبدال خط أنابيب نفط كركوك-جيهان الذي دمرته الحرب.
وكان لمبادرات إيران الأثر الإجمالي الأسوأ على إقليم كردستان العراق. فسرعان ما استعادت قوات الحكومة العراقية في تشرين الأول/أكتوبر 2017 الأراضي المكتسبة حديثًا خلال دحر تنظيم «الدولة الإسلامية» على يد «حكومة إقليم كردستان»، على غرار مدينة كركوك. ويزعم وهاب أن «إيران أرسلت وكلاءها لمساعدة العراقيين على استعادة كركوك. أعني أن خطة استعادة كركوك كانت من إعداد إيران. إنها العقل المدبّر. وبالتالي، لم يكن لتركيا أي يد في ذلك. بل على العكس، كان رئيس الوزراء الكردي يطالب، بل يتوسل من أجل عقد اجتماع مع أردوغان».
وقوّض هذا التحول في الآونة الأخيرة نحو بغداد إلى حدّ ما «حكومة إقليم كردستان» التي ما تزال أنقرة بحاجة إليها لأغراض التجارة وتلبية طلبها المتنامي على الطاقة. وفي هذا السياق، قال ديليمان عبد القادر، وهو مدير «مشروع كردستان» في مركز البحوث «وقف حقيقة الشرق الأوسط» (إيميت) ومقره واشنطن العاصمة، إنه «يمكن اعتبار الاستثمارات مؤشرًا لإربيل على أن تركيا تؤيد وحدة العراق وأننا [نحن الأتراك] سنواصل تعزيز هذه الوحدة، لكنني أعتقد أن الأكراد باتوا يفهمون هذه الحقيقة الآن». وعلى خط السياسة الخارجية التركية نفسه، علّق ريكس تيلرسون أن الولايات المتحدة تدعم «عراقًا موحدًا فدراليًا ديمقراطيًا ومزدهرًا».
وقد جمعت بين الولايات المتحدة وتركيا علاقات متشنجة خلال الشهرين الماضيين. غير أن بند إعادة إعمار العراق مدرج في أجندة البلدين وسيمثل فرصةً فريدة للتعاون. ويفيد السفير السابق جيفري أن «تركيا مهتمة شأنها شأن الولايات المتحدة بكبح إيران. وثمة محادثات ثنائية أساسًا بين البلدين [بشأن إعادة إعمار العراق]. كما أن نظرة اميركا وتركيا للعراق تتمثل باندماجه الكامل مع الغرب بدلًا من عراق يميل إلى إيران. وتكمن المشكلة في أن كلًا من تركيا والولايات المتحدة لديهما روابط وطيدة في العراق تكون متنافسة في بعض الأحيان».
وبخلاف الوضع في سوريا، يتشارك الحليفان في «الناتو» مصالح مشتركة في العراق، وتشمل الحفاظ على وحدة العراق الاتحادية والحدّ من منطقة نفوذ إيران واستقرار الاقتصاد العراقي – إلى جانب نقطة مشتركة تتمثل بعراق مندمج في الغرب.
غير أن الكثير من العقبات تواجه هذا المسعى الحثيث لإعادة إعمار العراق. ففي هذا البلد غير المستقر والمدمّر بفعل الحرب 5.7 ملايين نازح يجدون صعوبةً في العودة إلى وطنهم، كما أن 60% تقريبًا من العراقيين هم دون سنّ الخامسة والعشرين وقد ترك عدد كبير من بينهم مقاعد الدراسة. فضلًا عن ذلك، لا تزال مخاطر الألغام قائمةً إلى جانب مشكلات ضبط النظام وضرورة إجراء محادثات صلح ما بعد الحرب بغية استئناف الحياة اليومية. والأهم من ذلك أن البلاد تواجه مشكلةً كبيرة مع الفساد برغم انطلاق إصلاحات حكومية هائلة قريبًا. وفي الوقت الراهن، يمكن اعتبار جمع مبلغ 30 مليار دولار في قمة مدينة الكويت قصة نجاح متواضعة للعراق، قصة تمثّل فرصةً فريدة لرأب الروابط بين الحلفاء التاريخيين على أسس مشتركة.
هذا ولم تفصح تركيا بنحو خاص كيف سيتمّ تطبيق التعهد بمبلغ 5 مليارات دولار. وثمة الكثير من الغموض حول ما إذا كانت هذه الأموال ستكون على شكل قروض سيادية أو هبات أو استثمارات خاصة. ويقول وهاب في هذا الإطار إن «التعهد التركي هو تعهد حكومي بتقديم 5 مليارات دولار، أما التعهد الاميركي فهو خط ائتماني مقدم إلى المستثمرين الاميركيين من أجل العمل في العراق». وتطرح الانتخابات العراقية المرتقبة في الشهر المقبل والإقالة المباغتة لوزير الخارجية الاميركي ريكس تيلرسون ودعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القوات المسلحة التركية لمهاجمة منبج بعد عفرين تعقيدات حقيقية أمام التعاون. لكن، وللمرة الأولى منذ وقت طويل، يتشارك الاميركيون والأتراك أجندةً متطابقة في المنطقة.
*عن معهد واشنطن.