نصيف فلك
(كل كاتب وروائي يسأل نفسه بعد اكمال منجزه ويقول: ماذا يريد كتابي ان يقوله للناس هل ينفعهم ، وأي وجبة ثقافية يقدمها كتابي للقراء لكي يتمتعوا بالجمال والمعرفة؟ هنا نسأل الكاتب ماذا يريد ان يقول في كتابه للناس؟ وأي وجبة ثقافية غنية قدمها لجمهور القراء؟
بعد ترشح رواية (سفاستيكا) للقائمة الطويلة لجائزة بوكر الخليجية، صعد عندي منسوب الشك والريبة، لأن جائزة بوكر لا ينالها سوى الكاتب المزور للتاريخ والاحداث والشخصيات، ويزور وجه الضحايا ويضع وجوه الجلادين، كما ينال الجائزة من يسيء لبلاده العراق ويرتمي بحضن الثقافة العربية. وقد كان الشك والريبة في مكانها عندما قرأت رواية (سفاستيكا) للكاتب علي غدير والصادرة من دار سطور.
كنت على يقين بأن الكاتب يمتلك عدة الكتابة حسب مقاس هذه الايام والاجيال الحديثة في الخبز السريع والعشوائي لأي عمل فني ومنجز أدبي لا عدة الكاتب الادبية لأجيال سبقتنا حين يحتاج منهم ثلاثين سنة من القراءة والبحث والمراجعة والعمل الثقافي الشاق لكي يبلغ درجة الكتابة السردية بعد الاربعين والخمسين من العمر، اذن يمتلك علي غدير امكانيات خبز الكتابة لهذه الايام ليسطر رواية حب مغدور أو مغامرة جندي يتحدى حروب صدام الكثيرة وكيف يتملص منها لينقذ شرف روحه من القتل والتلوث بدم الجريمة والمشاركة بتدمير الوطن، لكن الكاتب علي غدير ترك آلاف الحكايات والقصص والافكار وأصر على كتابة سيرة ملفقة لشخصية (صدام حسين) وكأنه متيم بعشقه من خلال الوصف الانثوي لفحولة ذكر، ربما نعذره لأن هناك جيل كامل وقع ضحية العشق المتيم بصدام رسمها كتاب وادباء وفنانوا البعث وبقية المثقفين فهم وحدهم يتحملون تركة انقاض الثقافة العراقية المدمرة، ترك لنا هؤلاء المثقفين المجرمين جيل مريض بمركب النقص ومرض تقليد المجرم وعشق اسلوب جرائمه، لذلك لا استغرب هذه التربية منذ الطفولة في بيئة بعثية، المساكين فتحوا أعينهم على اناشيد الكلاب المسعورة مثل(احنا مشينا للحرب) وصور من المعركة وبرنامج (كي لا ننسى)، لقد سلخ البعث وصدام أجيال كاملة من تراب الوطن، ورباهم على كراهية البلاد من خلال حب مزيف، رباهم على احتقار الاخرين المختلفين معهم وتدميرهم بشتى الوسائل، وليس اعتباطا وجود خمس ملايين يتيم وخمس ملايين ارملة. شوه حب الوطن وزيف التضحية من اجله، جريمة يتحملها معظم الكتاب والادباء والفنانين الذي تركوا عشرات ومئات الاعمال الادبية والفنية، وهم وحدهم من يتحمل صناعة التزوير والتزييف الادبي والفني، وهم يتحملون ولادة جيل الذباحة وجيل زراعة العبوات الناسفة وتفخيخ السيارات وجيل الكواتم وداعش ولصوص الوطن.
لا نستغرب مطلقا ولادة نسخة جديدة من رواية (الايام الطويلة) لحفيد (عبد الامير معله) الذي يحمل اسم علي غدير، نسخة تحت اسم (سفاستيكا) ولدت من الجيل الثالث برعاية الجيل الاول من حميد سعيد وسامي مهدي والمسألة القندرية في الشعر، وجاسم الرصيف ومحسن الخفاجي والمسألة الدونية في الرواية.
كما راودني الشك بذكاء القراء وكيف أنطلى عليهم التزوير ولم يكتشفوا في رواية (قتلة) لضياء الخالدي كيف زور وجوه القتلة البعثيين والاسلاميين ووضع مكانها وجوه الشيوعيين البعيدين كل البعد عن الذبح والاحزمة الناسفة والانتحاريين. وأشك بذكاء القراء كيف مر عليهم التزوير وانطلى عليهم بسهولة في رواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي عندما برأ الذباحة السعوديين والخليجيين، بل برأ كل الارهابيين العرب المسلمين واتهم أجانب غير مسلمين بينما يعرف الجميع بعدم وجود انتحاري واحد غير مسلم. وكم كنا نتمنى ان يرتقي الروائي احمد سعداوي فوق الطوائف وعدم الانحياز للثقافي في رواية (باب الطباشير)، التي ذكر فيها(ايران) كحليف للشيعة في العراق، ذكر ايران مئات المرات في الرواية ولم يذكر مرة واحدة فقط: السعودية كحليف للسنة العراقيين. لو ذكر الكاتب السعودية وقطر مرة واحدة فقط لاستعدل ميزان الطائفية في الرواية. رأينا كفة أيران من شدة ثقلها هابطة للدرك الاسفل في حين كفة السعودية شاهقة في عنان السماوات. هؤلاء بعض الكتاب الروائيين ضمير الامة، هؤلاء الروح العميقة لوطن اسمه العراق.
كلي شك في ذكاء القراء عندما ينطلي عليهم كل هذا التزوير المفضوح، ثم الاشادة والمديح الرخيص للرواية والكاتب علي غدير، الذي تحايل على صفة الحيادية في انحياز ماكر، وراح يلعب على ارجوحة الذم والمديح، لكنه فشل وصارت الحيادية متطرفة الانحياز في عشق المجرم (صدام حسين) بحيث لم نسمع لوم بسيط على حروبه المزاجية، ولا نطلب منه سماع رصاصة واحدة لثلاث حروب ضمها زمان الرواية (سفاسيتكا)، ولا نطالب بعرض قطرة دم واحدة من ضحايا الحروب في مكان الرواية، بل بقي الكاتب مهووسا بعشق المجرم الفحل واستخف مزدريا ضحاياه.
يبدأ علي غدير الصفحة الاولى من الرواية في منلوج عن الحظ لا علاقة له بالسرد، ورقة الرواية الاولى زائدة ولا مكان لها في (سويداء النص) بل خارج النص.
سوف اركز هنا على لغة الرواية القاموسية التي يحاول من خلالها الكاتب سد النقص في لغة سردية حديثة بنت عصرها، وقد كنت أضحك وأنا اتخيل الزمخشري يكتب رواية في القرن الحادي والعشرين، يساعده في صياغة الحوارات ابن جني وسيبويه وخالويه ونفطويه وكل جماعة أويه. وكان السرد والحوارات لمهرج يستهتر ويستخف بنزيف الدم وجرائم القتل والاغتصاب وفي لغة سخيفة مثل شخص في منطقة شعبية يلطم فوق جثة أبنه المقتول برصاصة كاتم صوت وهو يصرخ: (يا ويلتاه وكبداه وقرة عيناه..) ومن هذا الخريط الذي يسخر من الكارثة. مع الكثير من الجمل القاموسية السخيفة مثل (ناوله منديلا جعدا) و( ليرفض ما تهجر به فتات النبي هذه) وهو يقصد( يهجر) يهذي، مفردات ماتت وشبعت موت حد الانقراض ويأتي هنا الكاتب يريد احياء وبعث عظام الديناصور، وكذلك جملة (فاتل المغزل): كم واحد من هذه الاجيال يعرف معنى المغزل، وكم واحد رأى شكل المغزل؟ نعم انها لغوة لغة تربى عليها الكاتب في المناخ البعثي بحيث يقول سياسي عراقي هو أمين سر المعارضة العراقية : (ليكون نقطة العنبر في صحنكم المرمري) وهي اغنية شهيرة لناظم الغزالي.
مثل هكذا لغة يقف وراءها شاعر فاشل متخم بمفردات (مجعمرة) لتخرج الجملة قميئة كثيرة الشوك والابر تفقأ عيون القراء الاذكياء وتبخق الاذن حال سماعها من متحدث. قلة نادرة من الشعراء استطاع زج المفردات الشعرية ووضعها في مكانها الصحيح داخل الجملة السردية.
أي كاتب يمتلك الوعي الخاص به يختلف ويسمو فوق الوعي العامي وكل انواع الوعي الشعبي، لكننا هنا في رواية (سفاستيكا) نلاحظ شيوع الوعي العامي والشعبي واختفاء الوعي النادر والخاص بالكاتب، خاصة فيما يتعلق بنقل فضلات وعي الشارع حول اعتقال (صدام حسين)، ويتبنى ذات الشائعات الساذجة حول فيديو الاعتقال مثل الدشادشة البيضاء التي يلبسها الجرذ صدام، وكذلك عن النخلة وعذوق التمر وزمن الفيديو شتائي. كل هذا الهراء سمعناه في سيارات الكوستر والكيا بين الركاب من ايتام البعث وصدام : هم لا يصدقون سقوط رمزهم وداس على راسه بسطال اميركي، لا يصدق عينيه وهو يرى الرمز الفحل هوى من شاهق السماوات الى جرذ مذعور. هكذا يحاول الروائي علي غدير وبعض يتامى البعث محو صور فيديو الاعتقال المهينة في الحفرة لكي تبقى صورة القائد الضرورة وسطوة الرمز الفذ في الاذهان المريضة التي لم تتقبل الاخراج الاميركي للفيديو، وليس كما الاخراج الاسلاموي العراقي لفيديو الاعدام الركيك والبائس الذي رفع الجرذ الى مناضل وانتشل الساقط من الخيس والوحل الى هيبة بطل أقلها في نظر اليتامى والكثير من العرب. طبعا، لا نعرف اصرار الكاتب على كون المعتقل في الحفرة ليس (صدام حسين) بل هو الشبيه، لكن الروائي علي غدير سقط في وصف هذا الشبيه على انه صدام نفسه بتلك البطولة الاسطورية وهو يعتلي المشنقة بكل شجاعة وجرأة ويطلق الشهادة، سقط الكاتب في وهم ان الشبيه لم يكن سوى صدام نفسه من خلال وصفه المتيم العاشق لهذا المشنوق، واحيانا وصف مجاني لا يرتكز على أي اخلاق رجولة لصدام طوال فترة وجوده في السلطة. وصف مجاني سوف يسخر منه المطلعين في علم النفس لشخص يسحبونه للشنق، وكيف تكون حالة الجسد والغريزة ودفاع الحياة عن نفسها ضد الموت، بعكس وصف البطولة الاسطورية للكاتب، كانه نسى المشنوق هو الشبيه وليس صدام، وهنا يهدم كل قلاع الوصف البطولي حين يقول 🙁 مات الظل وظل الاصل)، لقد نسف الروائي على غدير كتابه( سفاستيكا) لأنه مكرس للظل في حين اراده للاصل. ثم أين اختفى الاصل وقد مرت سنين طويلة على الهرب ؟
توقف بعض القراء الاذكياء عندما لاحظوا سماء بغداد في الرواية تمطر بلا انقطاع ولا وجود للصيف الغاشم الطويل الذي يقطع الانفاس ولا ينتهي. وقد خجل هؤلاء القراء من الوصف الدوني المستخذي لصدام في صفحات :(36،35،34) والتزوير الاقبح حول تجوال صدام بسيارته من دون حمايات لا من الامام ولا من الخلف بحيث يعترضه البطل (حواس) بسهولة.
فشل الروائي في خداع القارئ الذكي وايهامه بأنه يفضح سلطة صدام من خلال المديح والاعجاب بشخصيته الفذة، ويرفض فيديو اخراجه من الحفرة، ثم فشل في هذا الرفض أيضا ليقول لنا ان الشبيه هو من كان في الحفرة. لم يقع القارئ الذكي في فخ توصية نائب الريس(صدام حسين) لتدريب الصحفي(حواس)، الذي غيرت له اسمه العرابة الشمطاء من حواس الى (وسمان). ولم يقع القراء في فخ استبعاد القرويين من عشيرته ومن قرية (العوجه)، لأن الطفل في العراق يعرف هذه الحقائق بل واكثر وأعمق. وعندما فشل الروائي في إسقاط القراء الاذكياء في فخ الفضح برزت لنا خيوط التلفيق للرواية، ورأينا الترقيع في السطور حتى صارت أقرب لأي فيلم هندي هزيل لا يمكن تصديقه، كما ان الرواية انحرفت مئة وثمانون درجة عن مسارها الطبيعي عندما انتقل الكاتب الى رواية الايام الطويلة وتصوير فيلم مشهد اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم.
كان اسم الرواية يدل بشكل قاطع على مرض مركب النقص عند عشاق المجرم فالصليب المعقوف (سفاستيكا) لهتلر المعشوق من قبل الكثير من مرضى الشذوذ النفسي، وهنا في الرواية يتسلم صدام حسين راية الـ (سفاستيكا) ويقع في غرامه الكثير من مرضى الشذوذ النفسي ومرضى مركب النقص.
يشترك مع الكاتب في جريمة التزوير للوقائع والتاريخ المعاصر للعراق الدار التي نشرت هذا الكتاب وتم الترويج له بشكل واسع على الناس حيث التزوير وطمس جرائم البعث وصدام وتخليد الجرذ السيد القائد من خلال الفاحص والمقيم للكتب التي تستحق النشر، إذ يبدو ان هذا الفاحص هو الاخر مغرم بصدام حسين كما انه لا يعرف الفرق بين الادب والتزوير والتلفيق والكذب. مع الاسف لم يسمع الكاتب علي غدير نصيحة الروائي (فاضل العزاوي) الذي قرأ مخطوطة رواية (سفاستيك) ونصحه ان يتلفها ويتخلص منها سريعا، وانا اقول أيضا مع الاسف والالم حين لم يأخذ على غدير بنصيحة الروائي ويدفن (سفاستيكا) في أقرب بالوعة لتتوسد العفونة والنتن هناك مع تاريخ البعث وصدام حسين . كما تشترك في جريمة التزوير لجنة جائزة بغداد للرواية العراقية على منح هذه الرواية الجائزة وكأنها مكافأة لما قام به من فعل. وسوف تبقى هذه الجائزة عار في رقية الكاتب ودار النشر واللجنة ومن كتب بمديح واطراء عنها ،كما يشترك القراء في عارها ممن طبل لها وروج ومدح، ولكن ارجع واقول بحسرة وألم وامتعاض : من يقرأ ومن يقيم ومن يحكم ومن ينقد في زمن التردي والانحطاط هذا، وما هؤلاء الكتاب المزورين سوى مشاهير ونجوم هذا الانحطاط.
3/3/2017