(الحلقة الثانية)
الظاهرة الثانية: باختصار شديد إنكماش وتضاؤل وانحصار التيار العلمي وأثّر بالتالي على تحصيل المنطقة العربية من المعرفة والتقدم التكنولوجي والعناية بالتعليم والعناية بالمؤسسات البحثية قاطرة لبلوغ مرحلة التقدم ولبلوغ مرحلة النهوض الأوروبية والآسيوية التي انطلقت إلى هذا المجال العلمي. وأنا أظن أن همّ المعرفة العلمية في ثقافتنا خلال العقود الثلاثة الأخيرة كان عهداً سلبياً لا أدري إن كان نتج عنه هذا التخلف الكبير.
الظاهرة الثالثة: أن المثقفين استطاعوا أن يكوّنوا لغة خاصة بهم وأفقاً يتحاورون فيه لكنهم فقدوا لغة التواصل مع القواعد الشعبية لأنهم لا يلتقون إلا بالمستويات الثقافية الرفيعة بعلومها ومعارفها وكانوا يعتمدون على المتعلمين ممن يجيدون القراءة والكتابة، لقد كانت الثورة المعلوماتية والمرحلة الرقمية أمام هذه الطبقة فرصة ذهبية أن يهبوا بكل إمكانياتهم لجذب كل الفئات التي كانت بعيدة عن التأثير الثقافي بمستوياتهم الرفيعة ولكي يكسبوا القاعدة الجماهيرية.
للأسف لم يستطع المثقفون – وأعتقد أن هذا فشل لابد أن نعترف به- إستغلال لا عصر الصورة ولا الثورة الرقمية لكي يستطيعوا أن يحتضنوا مجموعات الشباب الذين أخذوا بكل وسائل التواصل الإجتماعي الأساسية والمعلوماتية بالملايين ولم يستطع المثقفون أن ينقلوا وعيهم إلى هذه القاعدة الأساسية.
الظاهرة الرابعة: السوشيال ميديا: كان من المفروض أن يلعب الإعلام دوراً خطيراً في التنمية الثقافية وتنمية وعي حقيقي سواء المسموع بالإذاعة أو المكتوب في الصحف أو المرئي في التليفزيون أو بكل الوسائل الإعلامية التي لا تحصى من حولنا. لكن الحصاد الثقافي الحقيقي والمعرفي لهذا الإعلام الذي يشغل ساعات تنهمر فيها الصور وتنهمر فيها الكلمات واللقاءات في الفضائيات دون أن تحدث تأثيراً روحياً حقيقياً في المستوى الثقافي للجمهور الذي يتلقى هذه الظاهرة.
كان يجب أن يكون الإعلام أكثر جدية وإعلاماً حقيقياً وأن يستغل ثقافياً وأن يمثل قوة إيجابية نافعة تؤدي إلى غلبة مستويات الثقافة الرفيعة في الفنون والآداب.. حقيقة الإعلام لا يقوم بهذا الدور. من المسؤول عن هذا؟ هل هي الحكومات التي وجهت همّها إلى استقطاب الناس حتى تستمر في السلطة والترويج للحكم السلطوي حتى يستمر أيضاً.. أم هي رؤوس الأموال التي تولت توجيه هذه الأذرع الإعلامية فقامت باستغلالها لمشروعها الخاص وتجاهلت دورها ووظيفتها المجتمعية الضرورية والثقافية لهذا الإعلام وهو ما لم يكن بهذه الضراوة والقبح قبل العقود الثلاثة الماضية.
وعلى الرغم من كل ذلك ومن خلال السنوات الخمس الماضية، وقد اختمرت لدى الشباب العربي كله بشكل متزايد الرغبة والشوق الحاد للإصلاح والتغيير والثورة والقيام بدوره في نهضة وتقدم بلاده لأننا فقدنا الحكم الرشيد وافتقدنا الانتقال إلى العصر الحديث عن طريق السلطة والنظام الديمقراطي، حتى الثورات العربية التي قامت لإعادة منظومة القيم الحاكمة للحياة (الحرية والعدالة والمساواة والعيش الكريم) وقد وُجهت كما تعلمون خلال السنوات الخمس الأخيرة ولم تنتج إلا تجربة واحدة في تونس تثلج صدورنا حتى الآن.
في الآونة الأخيرة حدثت لحظة فرح يشهد بها أي مثقف عربي هى: عندما مُنحت جائزة نوبل للسلام للرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس التي استطاعت أن تقيم توازنا حادا بين هموم الوطن وحاجة المجتمعات من ناحية أخرى من دون أن تخضع لهذا الوحش السلطوي الذي تذرع بالجماعات الدينية فنجحت في قيام حوار سلمي. لم تتمكن القوى المدنية المثقفة في بلد مثل مصر أن تقوم بهذا الدور.. فقد استطاع تيار ديني أن يسيطر على الحكم بهذا الوحش القطبي بمركز الإرشاد وغيره مما دعا القوى الوطنية أن تستنجد بجيش مصر حتى ينقذها من هذا المصير المجهول ومن الحرب الأهلية ومن المستقبل المجهول. لابد أن نعمل وندرس ماذا علينا أن نفعل. وشكراً.
د. خالد زيادة:
شكراً للدكتور قيس العزاوي .. وشكراً لحضوره من باريس إلى القاهرة.. وحضوره تكريمه بهذه الأمسية بالصالون الثقافي الذي نريده دائماً مستمراً ومؤثراً.
مداخلتي قصيرة وخاصة بالنسبة للمقارنة بين الوضع الثقافي الآن والوضع الثقافي العربي في بداية القرن العشرين. الواقع أن المتابع للشأن الثقافي يتساءل: لماذا تتحكم مجموعة صغيرة نسبياً في عدم انتشار التعليم وإنشاء المدارس وذلك منذ بداية القرن التاسع عشر وكيف استطاع أشخاص قليلون من العالم العربي تحقيق هذا الهدف. وطبعاً الكل يعرف أن الثقافة انتقلت من بلدين عربيين هما مصر ولبنان وكيف اهتمت كل منهما بالنهضة الثقافية العربية.. ولا ننسى الدور الذي لعبه لبنان وتفاعله مع هذا المحيط الثقافي العربي..
ولا ننسى دور المجلات والصحف الصادرة هناك وعلى سبيل المثال مجلة «المنار» اللبنانية وكذلك مجلة «الهلال» المصرية وكثير من المجلات الأخرى المصرية التي من خلالها تعرفنا على كُتّاب وأدباء كبار مصريين. وبالمقارنة مع اليوم يكون السؤال عن مدى تأثير عشرات بل مئات من المجلات والصحف العربية والجامعات وأعداد كبيرة من المثقفين والكتاب، ومع ذلك لا نستطيع أن نطلق على الوضع الثقافي العربي وضعا جيدا أو أن الثقافة تلعب دوراً ما في المجتمعات العربية.
جوابي على ذلك: أن الأفكار التي كان يقرأها لطفي السيد وطه حسين والعقاد كانت تساير العصر.. أفكار تبحث في قضايا الوطن وشعارات تحض المواطن على الحرية والديمقراطية والتي ما زالت في الوعي الثقافي وهي التي مهدت لقيام العديد من الأحزاب والصحف وإعداد القادة والزعماء.
أيضاً تفسيري هو ظهور الفكر الأيديولوجي منذ أكثر من سبعين سنة على حساب الوطن ومصالحه سواء الإشتراكية أو القومية أو الدينية وهو ما هيمن على الحياة الثقافية منذ عام 1950 وحتى أيامنا الراهنة. إذن هيمنت الأيديولوجية هى التي أخّرت الفكر أو قللت من شأن الإنسان.
المسألة الثانية: برأيي هى التي تفسر هذا الوضع الذي نحن فيه وهي عدم وجود أفكار رائدة، ليس هناك إجماع في مطلع القرن العشرين.. كان هناك إجماع على فكرة الحرية والديمقراطية والدستور والقانون… كانت تلك الأفكار الكبرى الإنسانية هى نوع من البديهيات. اليوم لا نجد أفكارا كبرى مماثلة وأكبر مثال على ذلك هو قيام الثورات العربية التي شهدناها خلال الخمس سنوات الماضية والتى لم تقدها أفكار كبرى إنما انطلقت من مسائل العيش والكرامة وهى أمور هامة على أي حال ولكن لم تطرح أي من هذه الثورات مشروعاً فكرياً يفضي إلى تغيير أساسي في الحياة العامة والخاصة.
من أجل هذا الدور الثقافي علينا تحليل هذه الأسباب وانتشار المجلات وانتشار الجامعات وآلاف الطلبة الجامعيين الذين يتخرجون سنوياً كل ذلك لا يؤدي إلى دور حقيقي للثقافة وبشكل خاص للحكم، إضافة إلى ذلك طبعاً من العوامل الثانوية هو سيطرة فكرة الإنتاجية.. لقد كانت التوجهات لدى الدول خلال الفترة التي حددتها الإشتراكية وغيرها هي يجب علينا أن نُخرج من الجامعات أطباء ومهندسين وأهمل الأهم وهو توفير العمل لهؤلاء الخريجين. وأعتقد أن المجتمعات لا تتقدم إلا بالعلم ولا تتقدم إلا بالأفكار الكبرى ونحن الآن نفتقر إلى هذه الأفكار الكبرى.
وهذه الأفكار ليست في نهاية الأمر للأفراد ولكن الأفراد عليهم مسؤولية كبيرة في هذا المجال. وأكتفي بذلك وأترك للأساتذة الكبار المجال لنستمع إليهم.