د. أحمد عدنان الميالي
شهدت تجربة التحول الديمقراطي في العراق في سياق ممارسة الحق الإنتخابي وما تمخض عنها اختلالات تتقاطع مع القواعد الديمقراطية وضوابط السلوك الإنتخابي الأمثل، فالمعلوم أن الديمقراطية ترتبط بسلسلة مترابطة ومتكاملة من الحلقات القانونية والواقعية ضمن إطار الخطاب والممارسة والمواقف العابرة لشتى المؤثرات السلبية، كالتقنيات الإنتخابية والإجراءات المتناقضة مع روح الديمقراطية. وإذا أستحضرنا التجارب الإنتخابية التي عرفها العراق بعد عام ٢٠٠٥ وما رافقها من نواقص وخروقات وإنتقادات، ندرك حجم الاختلالات في الممارسة بهذا الصدد والتي تتفاوت في درجة تأثيرها على القواعد والمنهجيات الديمقراطية المعروفة، وهي تتراوح بين تغييب الأسس الجوهرية وعدم أحترامها وأستحضارها في العملية السياسية قبل وخلال وبعد الإنتخابات وكالتالي:
1 – الاختلالات السياسية:
تمثلت في غياب قانون الأحزاب السياسية سابقا، وعدم فاعليته لغاية الآن، في ضبط التعددية السياسية والحزبية وطريقة تشكيلها إضافة إلى ضبط التحالفات والإئتلافات ومتابعة المخالفات والخروقات على وفق القانون، فلم نشهد حل حزب أو كيان أو حتى مخالفة واحدة ضد أي حزب لغاية الآن، فهل يعقل أن تكون جميع الأحزاب السياسية أستوفت الشروط كافة والتزمت بقواعد تأسيس الأحزاب وممارسة السلوك الإنتخابي من حيث العضوية والمقار والتمويل والدعاية…؟.
كما تتطلب المنهجية الديمقراطية إنتشار قواعدها وأصولها داخل بنية الأحزاب السياسية، وهذا ما نص عليه قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية، إذ لا يمكن للأحزاب المطالبة بأحترام القواعد الديمقراطية من دون تبنيها تلك القواعد في الممارسة السياسية عند الوصول للسلطة، أو في صنع وإتخاذ القرارات داخل هيكلية الأحزاب وفي تبادل الأدوار للقيادات والأعضاء والأنصار..
كما يتمثل الاختلال السياسي في غياب الاستقلال المالي للمرشحين والقوائم والأعضاء والناخبين كذلك، من حيث الإنفاق المالي والإعلامي، فأغلب الأفراد والجماعات السياسية ترتهن عمليات تمويل حملاتهم الإنتخابية بقيادة الأحزاب والقوى الراعية، مما يؤثر طبعا على قراراتهم ومواقفهم وخياراتهم التي تتأثر سلبا بسبب عدم الإكتفاء الإقتصادي لهم عند وصولهم للمواقع التشريعية والتنفيذية، فلا نتائج ديمقراطية للإنتخابات في ظل غياب حد أدنى من الإستقلال المادي، ولا يمكن الإعتماد على تنافسية إنتخابية حقيقية في ظل وجود أفراد مستعدين للتحول إلى أداة بيد الجهات التي تمول حملاتهم الإنتخابية أو تضمن وصولهم للسلطة برغم إنتشار هذا الإختلال في أرقى الديمقراطيات.
وإنطلاقا من الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية المتراجعة للأفراد قياسا ببعض الأحزاب والقادة، لا يمكن الإتكاء على إنتخابات تكون فيها مصادرة الإستقلال السياسي للفاعلين بشكل يخالف القواعد الديمقراطية، ففقدان المناعة تجاه المال والسلطة والمصالح، له قدرة لافتة على التحكم بمخرجات تلك الإنتخابات بعيدا عن المعايير الديمقراطية.
ومن اختلالات الممارسة السياسية في العراق، إن جزءا واسعا من الأحزاب السياسية لم تصل بعد إلى مرحلة النضج السياسي وهي قيد التحول، كما أن هنالك ضعفا بالإحساس بالمصلحة العامة الذي يرتبط بمشروعية النظام السياسي وفعالية السياسات العامة ومدى إشباعها لمتطلبات الشعب، مع تزايد نسبة الفساد المنتشرة في مفاصل المجال العام، فتحولت الإنتخابات إلى عملية حسابية تخضع لمنطق الربح والخسارة والمقارنة بين نفقات الوصول للمنصب وموارده.
2 – الاختلالات الثقافية:
ترتبط هذه الاختلالات بالوضع السوسيوثقافي، فأهم مفارقة بين الأصول والقواعد الديمقراطية في العراق ترتبط بهذا الجانب، فالديمقراطية آلية معبرة عن الإيديولوجية والخصوصيات الثقافية، خاصة إذا ما أعتمدنا على الإنتخابات كمعبر عن هذه الخصوصيات، فالديمقراطية ترتبط بالآليات الإنتخابية وترسخ قواعد المشاركة السياسية التي تمكن من تحويل الإختلاف الثقافي والصراع الحاد إلى إختلاف سياسي يضمن التعايش والأعتراف بين المكونات، ولكن الحاصل في حالة العراق، أن الأحزاب السياسية والمرشحين وحتى الناخبين غالبا ما يلجأون إلى الخلفيات الثقافية والإجتماعية المتمثلة بالمقولات الدينية والقبلية والعرقية والقومية الموروثة وبعض منهم يلجأ إلى القضايا الغيبية والطوباوية والإخلاقية لتوسيع مستوى المشاركة السياسية لصالح هذه القضايا وربطها بهم حصرا، فالإعتماد على الطرق التقليدية وتغييب توظيف المواطنة في المسائل السياسية والتنافس الإنتخابي هو الغالب في السلوك الإنتخابي والدعائي، فغالبا ما يتم اللجوء للتعلق بالماضوية والأنماط الفرعية للحكم على المشاركة السياسية، وهذا أختصار للديمقراطية ووضعها في قوالب وأنماط ثقافية خاصة، ترتكز على تسويق الخطاب الديني والتأريخي والمذهبي في التسيير والتدبير بين الأحزاب السياسية والمرشحين والناخبين، فما زالت هنالك سيطرة للثقافة السياسية التقليدية المؤطرة للسلوك الإنتخابي، برغم أن هنالك استبشاراً في الإنتخابات المقبلة والتي قرأناها في خارطة التحالفات الإنتخابية وطرق تشكلها، لكن ليس مضمونا بعد الإنتخابات صمود الطروحات الوطنية القادرة على خلخلة البنى التقليدية وتجاوز النظام القيمي والثقافي في المجتمع العراقي.
مع ذلك يمكن القول، إن التطور الديمقراطي عملية طويلة تتطلب وقتاً معقولاً لترسيخ شتى مقوماته، ويحتاج إلى أرتقاء وتطور العنصر البشري بثقافته وسلوكه وعلاقاته سواء على مستوى الوعي بها أو على مستوى الممارسات المنضبطة والداعمة لها، وهذا ما يفسر أرتباط الديمقراطية في نشأتها وتطورها بالثورة الثقافية والفكرية التي قادت الإنسان في المجتمعات المتقدمة، إلى تغيير أنماط التفكير والسلوك والثقافة السياسية عبر تجاوز التفكير الرجعي والتقليدي وآمنت بالتجديد والحداثة والموائمة.
3 – البدائل
إن من أهم البدائل والآفاق لتجاوز تلك التحديات والسلبيات والاختلالات نحو إعطاء صورة أكثر تعبيراً عن ترابط الديمقراطية التي ننادي بها بالممارسة السياسية سواء في الإنتخابات أو مخرجاتها بتشكيل الحكومة وأداء عملها وتطبيق برنامجها، لابد أن ننجز طلاقا بائنا مع التكالب على المناصب والمواقع والمصالح التي توفرها الإنتخابات للأحزاب للمشاركة في الجهاز التنفيذي، وعلى الأحزاب أن تجعل من المشاركة فرصة ثمينة لتطبيق البرامج الإنتخابية والمشاريع والأفكار بناءً على تنافسية شريفة مواطِنَة ومسؤولة، وفي إطار البرنامج الحكومي العام المتناغم والموجه بأهداف وقيم ومبادئ ومصالح وطنية بحتة.
ونعتقد أن إعتماد هذه الآلية خلال الإنتخابات وبعدها سيمكن الأحزاب من ربح معركة إستعادة ثقة المجتمع ورصيده ودعمه الذي أضاعت منه الكثير، فأخطر ما يمكن أن تواجهه النخب السياسية هو أفتقارها لثقة المجتمع بشكل عام.
فعلى النخب السياسية أن تبلور إرادة سياسية وإجتماعية قوية وواعية للإصلاح والتغيير والتجديد، مبادرة بذلك إلى نقد ذاتي وموضوعي لأشكال وعوامل ضعفها وتراجع مستوى تأثيرها، عاملة بذلك أيضا تفعيل رشيد وممنهج لمهامها وأدوارها السياسية والإجتماعية وخاصة ما يرتبط منها بوظائف التكوين والبناء والتثقيف والتنشئة السياسية للمواطنين عامة، ولشريحة الشباب بشكل خاص لأهمية هذه الشريحة ووزنها وراهنيتها.
إذا ما أمتلكت النخب السياسية هذه المعطيات وواجهت الاختلالات والرهانات يمكنها أن تتجه نحو إقامة قطيعة سياسية مع أشكال القيم والعلاقات والممارسات التقليدية المتآكلة وتعمل على تأسيس ثقافة سياسية حداثوية مستوعبة لكل مقومات وقيم وخصوصيات المجتمع العراقي التأريخية والروحية.
ولهذا على تلك النخب أن تستحضر هذه البدائل وكل ما يؤطر المشاركة السياسية والإنتخابية، فتجاوز الاختلالات يتم عبر الربط بين أصول الديمقراطية بالإنتخابات وتمخضاتها لإستعادة ثقة المجتمع بها. وعدا ذلك سنعود لتكرار التجارب المريرة والفاشلة ونكرر الدخول في الحلقات المفرغة والإرتهان الداخلي والخارجي ونقع في خانة العقم السياسي القاتل.
* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2018