عاقبة الانقطاع والاغتراب الطويل عن هموم وتحديات العالم المحيط بنا؛ أنتجت لنا نوعاً من الخلطات الغريبة، حيث يجتمع فيها الضد وضده النوعي، كما هو العنوان الذي وضعناه لمقالنا هذا، عندما يتحول (الإيثار) الى مرتع لمزاودات السماسرة، وقد برز ذلك بنحوٍ سافر عند عدد غير قليل من المتاجرين بتضحيات المقاتلين والمدنيين بعد سقوط الموصل وعدد من المدن العراقية بشكل مفاجئ وسريع. نوع من المخلوقات جعلت من التضحيات والمآثر التي سطرها المدافعون عن وطنهم وشعبهم، مجرد سلعة رخيصة لتمرير خطاباتهم العقائدية الضيقة. لقد تكرر مشهد تباهيهم وتبجحهم بتضحيات فصائل وقوى معينة، في غير القليل من البرامج واللقاءات في الفضائيات والمنابر الإعلامية الأخرى، حتى وصل الأمر بعدد منهم للنيل من الآخرين والاستهانة بهم، لأنهم لم يشاركوا بالقتال في جبهات الحرب ضد داعش، في الوقت الذي نعرف فيه جيداً حقيقة أن المدافعين والمتطوعين الحقيقيين، لا يمكن أن يفكروا ويتصرفوا بهذا الشكل المتعجرف والأناني، الذي لا يليق إلا بالمخلوقات التي أدمنت على (التباهي بشعر أختها) كما يقول المثل الشعبي.
لقد تطرقنا مراراً لمخاطر مثل هذا الخلط في المواقف، لا سيما فيما يتعلق بالوثبة الشعبية العفوية لمواجهة العصابات الدينية المتوحشة ورأس رمحها الإجرامي (داعش) صيف العام 2014. ذلك المزاج الشعبي العام الذي أدركته المرجعية العليا في النجف بفتوتها المعروفة (الجهاد الكفائي). مثل هذه المواقف الشعبية ليست غريبة لا عن سكان هذا الوطن القديم، ولا بقية الشعوب والمجتمعات التي واجهت مثل هذه المخاطر والتحديات، وبمقدور المرء أن يطّلع على العديد من التجارب في هذا المجال. إن تسلل المتطفلون الى ذلك الإرث المشرق من الإيثار والتضحيات التي قدمها الجنود المجهولون، وتحويله الى رصيد شخصي لمخلوقات قضمت كثبان من الدعاية والأضواء عبر تقنية (صورني وآني ما أدري) وغير ذلك من الوسائل والأدوات والقدرات التي وفرتها لهم حقبة الفتح الديمقراطي المبين، سيلحق أفدح الأضرار بالمغزى الفعلي لكل تلك التضحيات والفداء والإيثار. إن الانتصار والانعطافة التي نحتاجها، هو ما فرطنا به بعد “التغيير” أي؛ وضع أسس وقواعد لأمن راسخ واستقرار يؤمن للعراق سبيلاً آخر بعيداً عن لعنة الحروب، مهما كانت الذرائع والهلوسات التي تتبرقع بها، وهذا ما أخفقت فيه الطبقة السياسية التي تلقفت مسؤولية ما يعرف بـ (مرحلة العدالة الانتقالية) ومهماتها ومعاييرها المجربة.
إن مرحلة ما بعد الانتصار العسكري وتحرير كامل التراب الوطني من احتلال عصابات داعش الإجرامية، تحتاج الى توجهات جديدة تعمل على إزاحة أو تقليص نفوذ هذا النوع من السماسرة، الذين يلحقون اشد الضرر بالصفحات المشرقة من كفاح وتضحيات بنات وأبناء شعبنا، وبنحو خاص عندما يتم تطويب ذلك لصالح فئة او جهة أو مكون ما، على حساب بقية الأطراف مما يلحق أبلغ الضرر بالجهود المبذولة لترميم النسيج الوطني الذي ضعضعته سياسات النظام المباد وأكملت عليه كتل “الهويات القاتلة” بعد “التغيير”. المرحلة المقبلة (البناء وإعادة الإعمار) تحتاج الى إبراز الجوانب التي هجرت طويلاً من الشخصية العراقية، بفعل الحروب والنزاعات وعسكرة الدولة والمجتمع، أي الهمم والشيم والقيم التي ترفد المجتمعات والأمم بكل ما يعيد ترميم وحدتها الوطنية والحضارية ويضمن استقرارها وازدهارها..
جمال جصاني
سماسرة الإيثار
التعليقات مغلقة