عائشة الحرّة… مسرحية الوجع المُتوارث !

شكر حاجم الصالحي

حاولت من خلال متابعتي الدقيقة والمثابرة لكتابات الشاعر «حسين نهابة» ان اجد تبريراً مُقنعاً لتعدد اهتماماته الثقافية، فهو يكتب ويطبع ما يكتب: شعراً وقصة ورواية وترجمة وله حصيلة تزيد على عشرة كتب في هذه التخصصات. لكن «حسين نهابة» الغزير الانتاج أدهشني بإصدار مسرحيتين: الاولى «زفرة العربي الاخيرة» والثانية «عائشة الحرة» كلتاهما تتناولان قضية ضياع الاندلس وتسليم عبدالله الصغير مفتاح غرناطة لفرناندو الذي تم طرد العرب على يديه منها. ولست هنا في معرض تقديم دراسة مُعمقة عن اسباب فشل حكامها في الاحتفاظ بهويتها العربية الاسلامية، لكن الذي يشغلني هو تقصي دواعي الشاعر «حسين نهابة» في التوجه لكتابة المسرح وفي هذا الشأن التاريخي، اذ وجدت من بين اهم تلك الدواعي تخصصه في اللغة الاسبانية في دراسته الجامعية وشغفه بآداب هذه اللغة من خلال قراءة ابرز نماذجه والتعرف على كبار مبدعيه، لان هذه اللغة لا يقتصر تداولها على الاسبان لوحدهم، بل يتعداهم للشعوب الاميركية الجنوبية الناطقة بها، بمعنى ان هذه اللغة لها من السعة والانتشار ما يجعلها حيّة تنافس اللغة الانكليزية في من جعلها وسيلة القراءة والكتابة في مساحة واسعة من الارض والبشر، ثم ان قضية ضياع الاندلس كانت من بين افدح الخسارات والانهيارات في كيان الدولة العربية الاسلامية التي فتحت اسبانيا وهيمنت على مقدراتها لقرون عديدة، وتركت ندبة فاجعة في الوجدان العروبي، اذ تمخض عنها نشوء جيل من العرب الموريسكين الذين ولدوا على ارضها وعاشوا مع اهلها متحابين متصاهرين، ومازال ابناء المشرق العربي يقصدونها لاستعادة الامجاد الغابرة في مدنها وقراها وشواهدها الشاخصة في قرطبة وغرناطة والقصور الباذخة وطرزها الاسلامية قصر الحمراء نموذجاً. ومن القصص التي سمعتها من بعض مَن زارها من الاصدقاء، ان بعض ملامح ابنائهم وسحناتهم مازالت تفضح جذورها القديمة، ومازال اهلها يكنون الود والتقدير لذلك التاريخ المجيد، فهل لكل هذه المبررات والاسباب ما يدعو «حسين نهابة» لكتابة مسرحياته عنها؟ شخصياً أرجح اعجابه بتاريخ الاندلس وماضيها، واجادته وتخصصه في لغتها، ومن ثم انتماءه الروحي لذات المشاعر الانسانية التي تراها انكساراً وهزيمة للعنفوان والوجود الذي اسبغ على مدنها وقراها ذلك الثوب الحضاري وصاغ مفردات التعايش الانساني مع اهلها الاصليين. وها هو «حسين نهابة» يتحفنا بـ «عائشة الحرة» مسرحية تحفر في ذاكرتنا الوجع القديم وانهيار الحلم الجميل الذي كان فاتحة لانهيارات وهزائم متلاحقة. وابطال «عائشة الحرة» من القلّة العديدة بحيث تتيح لمن يريد تجسيدها على خشبة المسرح -اي مسرح- السبل الممكنة لتقديمها بكلفة انتاجية متواضعة، وهذا ما ادعو له واتمناه، في الوقت الذي نشاهد فيه تراجعاً كبيراً في حياة العراق المسرحية. أبطالها:
– أبو الحسن علي بن سعد امير غرناطة
– عائشة الحرة – زوجته الأولى
– طيف
– إيزابيلا (نجمة الصباح) – زوجته الثانية
– الأمير أبي عبد الله محمد الزغل – أخيه أمير مالقا
– ابو عبد الله الصغير- الأبن الكبير لـ (أبو الحسن)
– فرناندو وإيزابيلا – ملوك اسبانيا
– سعد – الابن الأكبر لنجمة الصباح
– موسى – مشاور الأمير (أبو الحسن)
– أثمار – وصيفة عائشة
و»عائشة الحرة» مسرحية في خمسة فصول تمتد على مساحة زمنية تتناول خفايا القصر الاميري وما يدور في حجراته من خطط لئيمة تديرها وتحيك خيوطها سيدة القصر وحاشيتها التي اثار إقدام الامير على الزواج بـ (ايزابيلا) نجمة الصباح، التي دخلت بقلب الامير وفي قصره الفخم لتبدأ بنهشه وتقويضه بمؤامراتها التي تريد من خلالها استعادة مجدها الغابر الذي داسته قوائم خيول فرسان العرب. والمشهد الثالث من فصل المسرحية الاول يلخص جوهر مشكلة الحكم ورؤية الامير ابو الحسن علي امير غرناطة التي لخصها المؤلف «حسين نهابة» بهذه الصورة التي تفضح واقع حياة الأمير وانشغاله بغير هموم الرعية:
«الامير في مخدعه يتأمل الجنينة من النافذة:
– الوقت مطرقة قاسية. منذ زمن لم يتح لي الوقت ان اتأمل رذاذ الفجر. كنت اعشق البرد طفلاً مُدللاً، فيروق لي ان اتعرى مثل الاشجار. كلنا عراة امام ضمائرنا اليابسة. ليتني أعود الى الماضي واصبح دائم الخضرة مثل هذه الشجرة التي جاءتني هدية من احد التجار. لم تعد تهمني الكثير من الاشياء. لا الانتصارات التي حققتها، ولا امسيات السمر. كل ما حولي خاوٍ لا ينتمي اليّ. حتى العينين فقدتا بريقهما في رؤية الاروقة الجميلة. هل للعمر صومعة جليلة؟
يتهالك على أقرب مقعد. يشعر بإعياء كبير. نهض بسرعة كمن لسعته عقربة برية.»
ويتصاعد الصراع الى اعلى مراحله بين سيدة القصر الاولى (عائشة الحرة) وبين سيدته الثانية نجمة الصباح (ايزابيلا) التي تخطط بدهاء للاستيلاء على عرش الامير بعد ان تمكنت من وضع عائشة الحرة واولادها تحت الاقامة الجبرية بوشاية مدبرة اجبرت الامير على اتخاذ قراره الجائر بحقها -عائشة الحرة- فاصبح الامير وكل ما في القصر خاتماً في اصبعها تديره كما تشاء نكاية بمغتصبي الارض (الغزاة)، وينهار الامير تحت ضغوطات ودسائس (ايزابيلا) وهو يصرخ هارباً من فراشه في عتمة الليل:
– اين الفوانيس؟ الغرفة حالكة.
– الغرفة مُضاءة يا مليكي. (هزته الثريا بلطف).
– ابعدوا عن رقبتي الخنجر المسموم.
– الكابوس نفسه يا أميري.
– نعم. (يفتح عينيه على اشدهما).
– اغتسل بماء الورد
– ألم يحذرني الطبيب من اغتسال الفجر؟
– لن يقتلك الماء بل سيقتلك ابنك وعائشة.
– غدا سأذهب إلى قصر الأقصار بجوار غرناطة لأستريح من كل هذا. (يتكلم مع نفسه) أنا على شفا الجنون من كل ما يحدث حولي. الإخفاقات كثيرة. صوتي يغادرني.
طيف:
– انك هالك.
– لا. انا ملك الملوك. انا أبو الحسن قاهر فرناندو وإيزابيلا. قاهر اخي الزغل.
– لم تعد كذلك منذ حصن «الصخرة».
وهكذا تتضح معالم النهاية المحتومة لعرش هذا الامير الذي اضاع جوهرة حكمة بين خصومات نسائه وحاشيتهن وبين دسائس الطامعين بالعرش وبالبلاد، وستظل اللعنة تلاحقه وذريته على تفريطه بكل ما حققه السلف الذي سبقه في ادارة شؤون البلاد، وها هي الحياة وامجادها تغادره وينتهي الى مصيره المحتوم.
– انا خالد على مر التاريخ.
– ابواب غرناطة مُوصدة في وجهك.
– لا أحد يُوصدها امام سيف الملك ابو الحسن.
– كنتَ. جميع الأصقاع التابعة لغرناطة اعلنت الولاء لابنك ابو عبد الله الصغير.
– تحققت النبوءة.
– غادر الى اخيك ابو عبد الزغل، فهو الوحيد الذي سيأويك.
– بل سأذهب الى مدينة «بازاه» فهي تحت حكمي وسيطرتي وما حدث في العاصمة ما هو إلا زوبعة ستنتهي قريباً ويفيق الشعب ويعلم أنه أخطأ باختيار ابني والخروج عليّ.
– الجميع اعلن الولاء للملك الجديد. افق انت.
– وولديّ سعد ونصير؟ وزوجتي الثريا؟
– إيزابيلا ؟ لا تخف عليها. اقامت مع ولديها في برج قمارش الذي اقامت فيه يوماً عائشة الحرة وابنيها اقامة جبرية.
– لي الله. لي الله. لي الله.
ويسدل الستار
وها نحن نطوي اخر صفحة في هذه المسرحية التي اثارت المواجع وجعلتنا نتابع مشاهدها واحداثها بكل جوارحنا، فمن خلالها قرأنا بعض صفحات من تاريخنا بفضل ابداع مميز كتبه «حسين نهابة» بلغة شعرية عالية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة