نصيف فلك
لا يدرك الكثير من الروائيين خطورة الكتابة السردية ولا يخطر في ذهنهم عار الفضيحة القاصمة لظهر القلم عندما ينشر احدهم رواية بمثابة (سونار) عظيم يكشف فقر دم الوعي وهشاشة عظام الثقافة وانسداد في شرايين اللغة. لم يدرك هؤلاء ان كتابة الرواية عمل خطير إلا بعد فوات الاوان حين يقع فأس نشر الراوية بالراس ويطيح بسمعته بين الناس. وهذا ما حصل لرواية (قتلة) لكاتبها ضياء الخالدي، الذي توهم انه يكتب لناس مغفلين واغبياء سوف لا يلتفتون لتزييف التاريخ وتزوير الاحداث القريبة، مثل منظمات الارهاب الموجودة في المنطقة كتنظيم القاعدة، ويتحايل على تاريخ نظام البعث وصدام فيقول: (رفاق حزبيون من الحقبة السابقة طيبون)، بدون ان يذكر الرفاق المجرمين والخبثاء الذين غصت اقلامهم بجثث المعدومين بسبب كتابة التقارير، كما تركوا لنا اكثر من (300) مقبرة جماعية وغيرها الكثير من جرائم البعث وصدام، التي تعتبر أسفل حقبة مرت بتاريخ العراق، لكن ضياء الخالدي يتساهل جدا مع (القتلة) الحقيقين ويصفهم(رفاق طيبون) فقط. وهناك خفة واعتباطية في الكتابة حين يقول عن مدينة بغداد هي مجرد محطة دفع فيها فاتورة الاكل، بدون ان يوضح لماذا وكيف، وأي ذنب اقترفت هذه المدينة.
باختصار مضر نقول ان الرواية يخترقها عيب قاتل: هو عيب ضحالة الوعي ونقص الثقافة. يعني ان رواية (قتلة) فضيحة سردية واخلاقية. الرواية ليست حكاية (سالفة) فقط، ليست مجرد سرد احداث اخبارية أبطالها مجموعة أفراد، لأن الثقافة بمعناها الوظيفي هنا رسم شخصيات الرواية مثل (الفيتر ومصلح الصوبات والكهربائي والمدرس)، مع رسم ثقافة كل واحد منهم، وكذلك ثقافة الراوي الذي يسرد الاحداث، وكل هذه تؤطر بثقافة الكاتب مايسترو يدير العزف السردي لجميع الشخصيات، هذا النقص الكبير في فيتامينات الوعي وفقر دم الثقافة، طبعا لا نقول تجنيا ولا للحط من شخصية الكاتب، إنما هي عيوب قاتلة في عملية بناء شخصيات الرواية، وعدم معرفة إدارة دفة الاحداث والشخصيات وتحديد تاريخ الوقائع كما هي بالضبط، حيث يتم بناء الشخصية بأسئلة عادية وبسيطة : بماذا أو كيف تفكر ، ماهي نوع المشاعر لدى الشخصية من العصر والبلد والمجتمع والمحلة والعائلة؟ طبعا كل هذا غير موجود مع تأثيث ديكور المكان وأزياء الشخصيات لكي نعرف الى أي طبقة تنتمي، لأن الشكل محور مهم في بناء الشخصيات وكذلك الطعام، فشكل حياة الشيوعي العراقي ولغته تختلف عندما يصير بعثيا فيما بعد، كما تختلف لغته وشكل ملابسه وسلوكه، بعد انتقاله للعمل مع القتلة في المنظمات الارهابية حسب تسلسل الاحداث في رواية (قتلة)، وهنا يتجلى نقص الوعي والخبرة والثقافة في جهل فظيع للشخصية الشيوعية، وطريقة كلامها والسلوك، واستخدام نوع خاص من المفردات وكيف يفكر، ويتعاظم جهل الروائي بعدم وجود لغة مقنعة لكل شخصية، وهي تنتقل من حزب الى اخر، وتنتقل من فكر الى فكر اخر.
الروائي خبير حياة وليس مجرد حكواتي، لم يقرب لنا الكاتب روايته بحميمية للقراء كون فن الرواية هو أقرب الكائنات الثقافية الى الحياة، كونها أليفة مثل الاطفال ويعلل الكاتب : ان (حمدان) أدرك حقيقة (ديار) في حين فشل البطل (عماد) بالقول: (ان جيل حمدان عاش الحصار والحرب الاخيرة فامتلك وعيا يفوق وعي عماد، الذي هو مع جيله ينطلقون من الماضي يحملون أفكارا جميلة عن أوهام ماتت). هل هذا كلام معقول لكاتب روائي طرح نفسه في سوق السرد وعالم الكتابة؟
بدأت رواية (قتلة) في الانهيار التام بعد انطفاء شعلة السرد في الفصل التاسع، وهو يستشهد بقول (نوري سعيد) عندما يصرح امام الصحفيين: (يحتاج البلد الى الكثير من الخدمات والى القليل من السياسة)، كأن الكاتب يحاول إدانة جميع الحقب لما بعد سقوط الملكية وإدانة الحاضر وكل جرائم الارهاب والحكام الجدد بهذه الجملة الفقيرة المبتورة وتعتبر من البديهيات الاكثر عمومية.
أما عن لغة الرواية فهي لغة مفككة يعتريها الوهن وفقر دم الصدق، لغة تفضح عدم امتلاك الروائي أهم ادوات الكتابة السردية، يا ليت كانت لغة وظيفية بسيطة واضحة تؤدي واجبها بأقل الخسائر، ولا نقول بمبالغة عن امتلاك لغة رشيقة وأنيقة. تغص الرواية بجمل ضعيفة ومجانية مسرفة في استخدام الكلمات التالفة والمتآكلة من كثرة استخدامها في الصحافة مع عشوائية في الاختيار، بل ودائما يفرغ الكلمة من معناها تماما، فتصير عائق وحجر عثرة امام القراءة والمشي فوق دروب السطور ذات الحفر والمطبات الكثيرة، التي تضعضع القارئ المسكين وتهشم عظامه وطاقة الصبر للمواصلة حتى النهاية، هذا النقص في امتلاك اللغة يسبب خلل في تركيب الجمل وعماء في العبارات، يؤدي الى فقدان المعنى وتلاشي الجمال، كما في جملة:( لن يدرك أبن الذي يعيش في المحافظات ماذا يدور في العاصمة).
يتبدى النقص في الوعي والخبرة بشكل سافر في الفصل العاشر، أسوأ فصول الرواية، عندما حاول الكاتب تعرية المجتمع ثقافيا لكنه عرى نفسه وفضح فقره الثقافي والمعرفي، وهو يحكم بشكل قاطع بوعي عامي لا وعي خاص لكاتب يحترم عقله في كثير من الاحكام الجاهزة مثل (حصار التسعينات الاميركي) والبعث وصدام أبرياء مساكين. مع نقص آخر في الوعي وهو نقص قاتل ومفصلي سقط فيه الكاتب ويسقط فيه الكثير من الكتاب والمثقفين وهو: لوم الوطن وشتم البلاد وصب الغضب والقرف من الوطن، بينما البلاد والوطن هي الماء والاشجار والتراب والجبال والسهول والحيوانات والحشرات، وكل ما هو جميل ومفيد عدا البشر الذي دمر كل هذه المخلوقات الوطنية. الوطن لا علاقة له بالشر والاديان والطوائف والقوميات والمجرمين، كل هذه صناعة بشرية لا علاقة للبلاد بها.
اما الفتق الكبير الذي لا رتق له ولا رقعة فهو: جعل الشيوعين هم المجرمين الارهابين في تنظيم القاعدة، وبرأ جميع الاحزاب الاخرى ومنها حزب البعث، جعل القادمين من المنافي في اوروبا واميركا وايران والدول العربية هم الشر الوحيد في البلاد، في حين لا يشير الى أفتك السفاحين من البعثيين والاسلاميين هنا بداخل العراق، ومن جاء من السعودية والخليج وتونس ومصر، عمد الكاتب الى تبرأة جميع من بقي داخل العراق.
رواية (قتلة) تتناغم بشكل سافر مع الثقافة العربية لغايات كثيرة منها لعله يحصل على جائزة بوكر أو غيرها من الجوائز الخليجية، ويتقاطع ويدين ويشتم الحزب الشيوعي وجميع اليسار والاحزاب غير القومية والاسلامية، هي ثقافة تحميل الاخرين المنفيين القادمين من الخارج كل جرائم الارهاب في العالم، أما رواد الثقافة العربية فهم ملائكة وعصافير وفراشات لا يعرفون معنى الشر، لقد سقطت رواية (قتلة) عراقيا ونجحت عربيا.