سلمان رحيم
(1)
باتجاه الجنوب
كل شيء هنا يسير باتجاه الجنوب– قال وهو ينظر الى السماء– الغيوم الرمادية المحملة بسخام الحرائق والحروب تحبس قطراتها عبرات سوداء لتذرفها مثل دموع ممزوجة بكحل عروس مفجوعة… عواصف التراب الصفراء، تنبئنا بمجيئها اختناقات المدن التي تمر بها قبل ان تكمل مسيرتها الخانقة باتجاه الجنوب… حتى هذا النهر يحمل آلام وآهات وأوساخ وكراهية من يمر بهم ويذيبها في ملوحة مثواه الأخير… وكأن هذا الجنوب هو المثوى لكل آلام وحروب هذه الارض .. الساعة الرابعة صباحا كنت على وشك مغادرة نقطة الحراسة ولا يزال هذا الرجل الغريب الذي يجلس بجواري ليلته كلها يتكلم بطريقة غريبة وكأنه احد الحكماء القادمين من الحكايات و ألأساطير القديمة , يتكلم بألم عن كل شيء فهو يعرف كل شيء! سألني عن الشاحنات المتوقفة في بوابة المدينة منذ منتصف الليل مبادرا بإعطائي الفرصة للحديث هذه المرة :
– انها شاحنات تحمل حاويات فارغة متجهة الى موانئ الجنوب لتعود ممتلئة مرة اخرى .. لم يسمح لها بدخول المدينة قبل الخامسة صباحاً
– باتجاه الجنوب مرة اخرى (قال ضاحكا) .. ونهض بتثاقل مستعينا بمقبضي كرسيه الحديدي واتجه الى مكان ضجةٍ أحدثها تجمهر من في المكان – بما فيهم رجال الأمن – حول السيارات الخمسة عشر القادمة للتو والمحملة بتوابيت مغطاة بالعلم العراقي … ركب احدها بعد ان انفتحت بوابة المدينة وانطلق حتى ذابت صور التوابيت وتلاشت بين الشاحنات المتجهة الى الجنوب….
(2)
ارتفاع ضغط الألم
التماعة عينيها تتكلم من وراء عدستيهما المدورتين …. اللون الاسود هرم جراء تغلغل اشعة الشمس الى مسامات ثيابها المفعمة بالحزن او ربما بسبب عدم الاكتراث الى تغييرهما بين الحين والآخر رغم بهاءها كامراءة كبيرة الا ان بصمات القسوة التي مارسها الزمن جعلت ملامح وجهها بلا بريق .. فهو بحاجة الى من يمسح الغبار عنه كأي قطعة اثاث مركونة في زوايا بيت هاجر اهله تذكرت حينها وجه امي ببهائه.
الشيء الغريب اني اجلس في عيادة طبيب اطفال فما الذي يرغم هذه المراءة المتهالكة بكل هذا الحزن الى الانتظار في طابور الطبيب .. ظننت للوهلة الاولى انها برفقة احد احفادها .
جلست ببطء على احد الكراسي وكأنها لا تستطيع ان تخمن المسافة بين الكرسي وجسدها , فالإحساس بالأشياء يحتاج الى صفاء بال .. وكأنها تبحث عن شي ما , ركزت نظراتها في وجهي .. ابتسمت ولكنني لم ار ابتسامة حزينة كهذه !! .. فهل تذكرت شيء ما؟ او ربما وجدت ما تبحث عنه في وجهي !
استقبلها الطبيب باحترام قالت له : اشعر ان ((ضغطي صاعد يمّه) وكانت تنهي كل عبارة بكلمة (يمّه) فهي تشعر بأنها ام لكل من تراه …
بعد ان قاس ضغط دمها بجهازه الهوائي لامها كثيرا لأنها لم تلتزم بجرعة دواء الضغط ..
فقالت له : انا ملتزمة بالدواء ولكنني كلما ذكرت ولدي الذين قتلا سويا في بغداد يرتفع ضغطي … فقد كانا بعمر هذا … وأشارت بأصبعها نحوي.
(3)
جاذبية الحزن
في شوارع المدينة الكئيبة يبيع ضحكاته.. يطلقها الى السماء.. ينثرها مثل مفرقعات الألعاب النارية الملونة … يرمي كوفيّته البالية الى السماء وكأنه يدغدغ غيومها الرمادية علّها تمطر ضحكات مبلّلة .. تنهي به قحط السنين وعطشها لفرحة … لا يستسلم يكرر محاولاته مرارا كلما أجبرتها جاذبية الحزن للعودة مرة اخرى الى يديه الممدودة لاستقبالها , وكأنه يعلم بعودتها خائبة .
كالعادة يقطع شارع المدينة الرئيسي مجيئا وذهابا مارا على المحلات المحاذية للشارع عند جانبه الأيمن ، يدسّ ما يجمعه من قطع الحلوى في جيوب سترته المنتفخة ، اعتاد اصحاب المحلات على ذلك وكأنه تعويذتهم التي تجلب الرزق …
لم يكن متعودا ان يدس انفه في ما يحدث في الشارع من صخب فعادة لا يكون المجنون فضولي , المجنون يرى الناس كلهم مجانين الا هو !
لكن على غير عادته .. يدفعه تجمع الناس وضجيجهم حول طفل تشربت شقوق رصيف الشارع بدمه الغض جراء تلقيه رصاصة تائهة في الهواء …. يفرغ جيوبه المنتفخة من قطع الحلوى ويرمي كوفيته الى السماء ويتركها مستسلمة لجاذبية الحزن …. ثم ينطلق بعيدا .