الشمس بانت من بعيد

ابتسام يوسف الطاهر

تطلّع للمرآة مبتسما للوجه الذي امامه «صباحك خير ياظل ظلي ويا يأسي ويا أملي..» هههها ضحك مبتهجا وساخرا من تحويره لمناجاة الحلاج.
«تبدو مشرقا اليوم، كما هي الشمس الان وهي تتراقص بين الشوارع .. لا داعي للحلاقة». مرر يده على وجهه. لم يزعجه شعر لحيته المخشوشن. مر اسبوع واكثر لم يمرر موس الحلاقة، بالرغم من ارتياحه لحلاقة لحيته كما لو هو ينظف وجهه من ادران الكوابيس الليلية.
«ما الفائدة؟ حلقت ولم احظى ولو بنظرة عابرة» ابتسم ساخرا. وعلى غير عادته استرجع اشراقة مزاجه، فهي المرة الاولى التي يرى فيها وجهه جذابا.
في المطبخ وضع الحليب مع ملعقة قهوة في المايكرويف «لا داعي لتبذير الغاز على كوب قهوة». تطلع من نافذة المطبخ الصغيرة شاعرا بفرح وهو يرى الشمس مازال ضياءها يمنحه النشاط وبعض الأمل. «كل شيء نسبي» قالت له يوما. «حتى الشمس، فهناك حيث هي اجمل في بلادي من سواها.. لكنها تنتقم من الرؤوس في نهارات الصيف الحارقة». نعم لكنها هنا تطل ضيفة مرحة خفيفة الظل والحضور.
غير ملابسه على عجل وحمل جاكيته وصار يراقصه وهو يدور حول نفسه (الشمس بانت من بعيد..جاية ومعاها يوم جديد..يجعل نهارنا، نهار سعيد..). علقت الاغنية في رأسه كما يعلق طعم المانجا التي يحبها مهما اكل بعدها. اغاني كثيرة غنتها شادية في الفيلم الذي شاهده بالأمس على اليوتيوب، لكنه لم يذكر سوى تلك التي منحته بعض التفاؤل. الفيلم لا يستحق المشاهدة لكن الاغنية غسلت روحه وابعدت عنها غبار اليأس. كان قد قاطع التلفزيون منذ زمن الكوارث والاخبار المحبطة. والافلام القديمة، احتكرها رجال الاعمال السعوديون لقنواتهم. فوجد ضالته في اليوتيوب.. بالأمس القريب كان يحقد على الكمبيوتر وقد سيطر على المؤسسات فاستغنوا عن خدمات البشر لينظمَّ هو الى موكب العاطلين عن العمل.
« لا تبتعد، خليك هنا حيث الشمس وقد بانت من بعيد..» خاطب نفسه ليمسح عنها غبار الاحباط.. لابد انها الشمس التي اطلت بدفئها على شوارع غسلها المطر بالأمس، كأم حنون تجفف شعر ابنها.
(الشمس بانت من بعيد.. ومعاها يوم جديد..اللهم اجعل نهارنا..نهار سعيد) اليوم تصل اجرته وسيدفع فواتير الكهرباء والغاز..آه..الايجار لايمكن تأجيله! وقد يدلع نفسه بغداء معقول في مطعم ما. مرت ايام اكتفى فيها بالافطار وحين يعضّه الجوع يكتفي بشرائح الكورنفليكس مع الحليب الذي يحتل الثلاجة بمفرده منذ أيام.
لقد هاتفهم عن سبب تأخير الدفع وقد ارسل لهم تفاصيل ساعات عمله المؤقت كما طلبوا منه، ليحظى بملاليم تحفظ له ماء وجهه امام صحبه. فكثير مايتحجج بكتاب يقرأه او موعد وهمي ليتجنب الخروج معهم.
لماذا تضيع متعة اليوم بالتفكير بالاعيبهم؟ فتلك وسيلة للربح، حيث تبقى النقود في حسابهم البنكي ليجنون منها الفوائد. اسرع كما لو هناك يد تدفعه. وعاد يردد (الشمس بانت من بعيد..).

ادخل كارت الحساب في جهاز السحب ليرى رصيده متأملا الرقم المتوقع. لكن الحمى صعدت لرأسه فمرر يده المتثلجة على جبهته لرؤية اشارة الناقص تسبق العشرون، المبلغ الذي سحبه قبل اسبوع.
اللعنة.. ما العمل؟ بقي لحظات يتأمل شاشة الماكنة بشرود. شعر باحراج من الشخص الذي يقف خلفه منتظرا دوره في استخدام الجهاز. انسحب بهدوء دون ان يتطلع صوب الشخص ذاك.
خطوته التي كانت قبل قليل تذكره باغنية فيروز (ضربة قدمهم على الارض هدارة) صار يخط بها وهي ترفض طاعته فصار يردد (رديت وجدامي تخط حيرة وندم).
«تلك الاغاني عمّتْ عليك».. حاولَ تذكّر ماغناه صباحا، الاغنية التي منحته بعض التفاؤل، دون جدوى. فصورة الناقص تسبق رقم حسابه ضببت ذاكرته ولم يبق غير صوت حسين نعمة يخط (بقدمه) شريطا ترابيا للحيرة والندم. تسارعت صور رحلاته بين الأمس واليوم وصارت تدور به كالعاصفة الدوارة.
جلس على احد مقاعد مقهى نيرو على الرصيف والتي وضعت للمدخنين. بحث في جيوبه عن سيجارة فتذكر انه لم يشترِ علبة على امل بقطع التدخين. الان مستعد لبيع قميصه مقابل واحدة. «ومن يشتري قميصك المخضرم هذا؟» ابتسم ساخرا وتطلع للشمس. ليست نهاية العالم، خدعك رب العمل؟ هناك العشرات مثلك.
افزعته يد انتشلته من عواصف الافكار «ماذا دهاك؟ اتصلت عشرات المرات وموبايلك لا حياة له». ابتسم محرجا لمحدثه. جلس قبالته وطلب قهوة ثم انتبه له لم يكن أمامه اي شيء فطلب لهما ساندويجات وقطعة كيك مع شاي له. «قبل كل شيء اذا عندك سجاير مدني بواحدة».
«ما الحكاية؟ لم ارك من قبل بهذه السحنة». تطلع للمارة بشرود وهو ينفخ الدخان ببطء واستمتاع .. «لاشيء مهم». شكر صاحبه، وتردد من طلب المساعدة، أمر محرج، فيه فضح لإستغفاله!.. «القانون لا يحمي المغفلين». تذكر يوم قرأ اعلان (اكسب كذا وانت في بيتك..لا مسؤول على رأسك ولا شروط.) فسارع للاتصال بهم فاخبروه ان عليه دفع مبلغ كتأمين. وسيعيدون ذلك المبلغ مع اول دفعة تصله من الاجور. استدان المبلغ يومها من جارته ووضعه بحسابه ليرسل صك بالمبلغ المطلوب. ولم يسمع بعدها أي خبر. اضطر لبيع تلفونه النقال وكاميرته ليسدد الدين.
سحبته عاملة المقهى من تلك اللحظات وهي تستبدل منفضة السيجاير بأخرى نظيفة. احرجه صمته امام تساؤل صاحبه. فقد قبل بعمل مؤقت لمدة اسبوع مع شركة بناء، فاستغفلوه ايضا!
المفروض القانون وجد لحماية المغفلين. «هل تحتاج لبعض النقود؟» تمنى لو صاحبه يسأله. لكنه صدم به يحكي عن متاعبه المالية ومصاريف الاولاد..تنازعته رغبة بالضحك لعلها تطفء جمرة الغضب والخيبة التي احرقت خيوط تفاؤله الصباحي.
انت السبب لو كنت صمدت في عملك السابق، وتحملت جلافة وحقد مدير القسم..لو..لو..
«هيا بنا كف عن الصفنات..ماتضيق الا تفرج». لاح على وجه صاحبه اشراقة فرح وهو يبتسم له فانتقلت له روح التفاؤل تلك وازاحت بعض من غيوم الخيبة. خطرت له فكرة، التخلي عن الخجل والذهاب لمكتب الارشادات القانونية، فلهم خبرة في استعادة حقوق المغفلين مثله. شكر صاحبه واعتذر عن اضطراره ليذهب لمشوار مهم.
اختفت الشمس وراء ستائر سحب رمادية، فتذكر الاغنية وظل يرددها وهو يحث خطاه بالرغم من تبعثر كلماتها. تفككت مفرداتها حينما تسلل الغضب واعتصر قلبه لتكرار الخيبات. لكنه واصل ترديدها لعله يسترجع بريق التفاؤل الذي شعره هذا الصباح.

لندن 2017

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة