الجمهور عاوز كده

من خلال هذه العبارة المصرية المشهورة، يمكن التعرف على الكثير من علل وعيوب واقعنا الراهن، وعن دور هذا “الجمهور” في إجهاض التطلعات المشروعة للحاق بركب الأمم التي انعتقت من اصطبلات عصور ما قبل النهضة والتنوير والتحديث. وفي عراق ما بعد زوال النظام المباد، انبثقت فرص وإمكانات لا مثيل لها أمام سكان هذا الوطن القديم، كي يشقوا طريقهم مجدداً الى حيث القيم والمشاريع التي دغدغت ضمائر وعقول أفضل ما أنجبته بلادهم من شخصيات كرست كل مواهبها لخدمة الشأن العام، إلا أن موازين القوى المختلة لصالح “الجمهور” والأوصياء عليه، سرعان ما أجهضت ما يطلق عليه بـ “الإمكانية الإيجابية” لصالح ضدها النوعي أي “الإمكانية السلبية” والتي تحولت الى واقع رسخته قرارات وتشريعات وخطابات القوى والكتل، التي تلقفت مقاليد السلطة والثروة والنفوذ بعد “التغيير”. إن وجود مثل هذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة على سدة القرار، والعجز عن تغييرها وزحزحتها عن مواقعها الحالية، لا يمكن فصله عن دور وفضل وحماسة هذا “الجمهور”، حيث تتناغم خطابات وتوجهات وأخلاقيات هذه الكتل، وما يعصف بعقول وسلوكيات قطاعات واسعة من جماهير أدمنت على اجترار ما يرمى لها من فضلات موائد المستبدين والسلاطين ووعاظهم التقليديين منهم و “الحداثويين”. من دون أدنى شك هما (الجمهور وولاته) يرفدان بعضهما البعض الآخر، بكل ما تحتاجه بركنا الراكدة من متطلبات للاستمرار والبقاء، لذلك لم نحظى بردود أفعال تليق وما انحدرنا اليه من حضيض مادي وقيمي، لا شيء سوى المزيد من التذمر والشكوى والنشاطات الاستعراضية الخاوية.
ان انتظار حصول تغيير أو إصلاح جدي في أحوالنا، من دون وجود أي نشاط واسع ومنظم لفك ارتباط هذا “الجمهور” بشبكة المعالف التي أدمن عليها؛ يعني الاستعداد لاستقبال جيل جديد من الخيبات والمحن. لقد أهدرنا فرصة بناء دولة حديثة على أنقاض النظام المباد، وسارعنا لتدوين دستور يحقق لفرسان التشرذم ومؤسسات ما قبل الدولة رغباتهم الأساسية مع خلطة من المنكهات الدستورية الحديثة، لنحظى في نهاية المطاف بنظام يترنح على عكازات بعد أن أضاع المشيتين. غالبية الاستطلاعات والاستبيانات المعتبرة وبنحو خاص الأجنبية منها، تشير الى ان نتائج الانتخابات المقبلة (12/5/2018) ستعيد إنتاج نفس القوى والكتل المسؤولة عما حصدناه من إخفاقات وكوارث. وهنا يأتي دور الدولة ودستورها ومدوناتها ومؤسساتها التنفيذية، والتي فرطت بشرطها الأساس ألا وهو؛ الحيادية تجاه جميع سكانها (أفرادا وجماعات قيما ومعتقدات..) وهذا ما لم يحصل لا قبل التغيير ولا بعده. الدولة الحديثة وحدها بمقدورها ان تضع حدا لهذيانات وهلوسات “الجمهور” وهرولاته الغوغائية التي ألحقت أبلغ الضرر به وبمصالحه الحيوية قبل غيره. لقد بسطت القوى والمفاهيم والمصالح الشعبوية هيمنتها على حطام النظام المباد، وأعادت هيكلته بشكل يتنافر ومصالح العراقيين في الوحدة والاستقرار والازدهار، بعد ان نجحت بوضع قواعد للعب تنسجم وقياساتها الفئوية الضيقة والمتخلفة. مع مثل هذا الإصرار على دغدغدة الغرائز المتدنية لهذا “الجمهور” المشوه قيمياً وثقافياً، هموماً وأولويات واهتمامات، لا يمكن انتظار شيئاً مغايراً للحصاد المر الذي جنيناه في أغلب محطات تاريخنا الحديث والذي قارب المئة عام. ومع مثل هذا الإصرار على إعادة تدوير الأنظمة والأحزاب والزعامات العقائدية والشعبوية (التقليددية منها والحداثوية) لن نحصد سوى المزيد من المرارات والعويل والخيبات..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة