ديمقراطية أولاد الست..!

ما يجري بين ردهات أعلى سلطة تشريعية في البلد، وما يحصل بعد ذلك من تداعيات وتعاطي من قبل السلطات الأخرى (التنفيذية والقضائية) والإعلامية، حول القوانين والتشريعات والقرارات التي تتخذها، يشير غالباً الى أن هذه المنظومة الحداثوية الوافدة (الديمقراطية)، ما زالت غريبة ومرتبكة على تضاريس مضاربنا المنكوبة بـ “ثوابتنا الجليلة” وقيمها الراسخة في أعماق اللا شعور، ومنها على سبيل المثال لا الحصر القاعدة التي تختزن كل ما هو متنافر والقيم التي ارتقت بسلالات بني آدم الى الذرى الحالية من تقدم واستقرار وازدهار؛ أي قاعدة التمييز الشامل والتي تميّز بين الإخوة على أساس عنوان الأم الاجتماعي (أولاد الست وأولاد الجارية). مثل هذه القيم والمعايير التي لم تفارقنا طوال قرون عديدة من تاريخنا القديم والحديث، لا يمكن أن تترك مواقعها بيسر لقيم التعددية والحداثة والمساواة التي نضجت بعيدا عن مضاربنا بعد جولات مريرة وطويلة من الكفاح والتضحيات والثورات العلمية والقيمية. لنأخذ على سبيل المثال الموقف الذي اتخذته المحكمة الاتحادية العليا، من الخلاف الذي نشب حول وضع شرط الحصول على شهادة البكلوريوس أو ما يعادلها للترشح لعضوية مجلس النوّاب، حيث انحازت المحكمة التي اختصتها المادة (93) أولاً من الدستور العراقي: (الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة) الى جانب هذا الشرط المجحف وغير المعمول به في أرقى وأعرق التجارب الديمقراطية في عالم اليوم، بالرغم من النصوص الدستورية الصريحة التي لا تميّز بين العراقيين في الحقوق والواجبات مثل المادة (14) (العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب…) والمادة (16) (تكافؤ الفرص حق مكفول لجميع العراقيين) والمادة (20) (للمواطنين رجالا ونساء حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشح). وغير ذلك كان بمقدور المحكمة الاتحادية الاستئناس بما تراكم من خبرات التجارب الرائدة في هذا المجال، كي تكون سنداً راسخاً لـ “روح القوانين”.
لا يحتاج المتابع الحريص الى كثير من الجهد والتنقيب كي يكتشف العلل التي تقف خلف مثل هذه الفزعات التشريعية، ودافعها الفعلي كشكل من أشكال الهروب الى الأمام والتي أدمنت عليه هذه الطبقة السياسية الفاشلة، كونها لا تتجرأ لطرق أبواب التشريعات المطلوبة لمثل هذه المرحلة الانتقالية في حياة المجتمعات والدول، وهذا ما تداركته هي نفسها، عندما عادت بعد أيام لإقرار ما عرف بـ (تعديل التعديل) وهذا ما لم يحصل منذ زمن المغفور له مونتسكيو الى يومنا هذا..!
من دون أدنى شك، فاننا لا نعول على هذه الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد عراق ما بعد زوال النظام المباد؛ في التصدي لهذا الكم الهائل من الإرث المعيق لانعتاق الإنسان وتحرره، وقد برهنت خلال أكثر من 14 عاماً عن عجز فاضح في هذا المجال، لكننا لا يمكن أن نسمح لها بإنتاج ما يجعل عملية التحول أكثر عسراً وتعقيداً، كما يحصل مع مثل هذا السلوك التشريعي، والذي يشغلنا جميعاً بهموم مفتعلة تستنزف الجهد والوقت والفرص. يفترض أننا بصدد مواجهة تحديات البناء وإعادة الإعمار، وهذه المرحلة لا تنهض بها عقول وذهنيات ما زالت مسكونة بمساطر التمييز بين عيال الله على أساس العناوين والتسميات والفضلات البشرية العابرة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة