د.خالد عبدالغنى
ما لم يعد بحاجة لإعادته والتأكيد عليه هو أن هناك تماهيا بين ذات المؤلف والموضوع في العمل الأدب والفني هذا ما توصلنا إليه في العديد من الدراسات النقدية النفسية.
فالمؤلف /على لفتة سعيد، تماهى مع الموضوع/ قضايا الإنسان العراقي وأزماته المختلفة في زمن الحرب. ففي رواية السقشخي عانى ماجد من الاضطهاد وويلات الحرب ، وفي مثلث الموت كان الموت حاضرا وبقوة . ولا أدل على ذلك من العنوان نفسه الذي يصبح عتبة أولى للكشف عما هو موجود بالنص من تشظي وهلاك . وهنا في مزامر المدينة يعلن الموت عن نفسه أيضا. وتكون صورة «محسن» بطل الرواية على هيئة المؤلف «على لفنة سعيد» فيجيئ وصفه كما لي :
«عدّلت من تسريحة شعرك لتغطي صلعةً صارت كبيرةً تغطيها زغب شعيرات لا تمنع ضوءاً أو لمعةً» أليست هذه صورة المؤلف؟.
وكان من حسن حظي في فتة سابقة أني اطلعت على مخطوط الرواية قبل الدفع بها للنشر وكان عنوانها «مزامير القبور» وكانت هناك ثيمة ثابتة لدى المؤلف تتعلق بالموت ظهرت ف كثير من رواياته وكان لها – الثيمة- دلالتها من حيث الحتمية النفسية التي تجعل من الموت موضوعا دائما لديه ، فها هو الطفل ذو العامين الذي يفقد أمه بالموت، وما يلبث أن يلتحق الجيش ليعيش مأساة الحرب ويشاهد القتلى مجندا ، ثم عيش المأساة مرة أخرى ف احتلال الامريكان لبلاده ، وها هو يعيش تجربة القتل على الهوية الدينية في الأحداث الإرهابية طوال السنوات الخمسة عشر الأخيرة ، ولكن عندما تغير اسم الرواية يفقد النقاد أو على الأقل أفقد أنا شخصيا ثيمة قد تكون مدخلا مهما لفهم النص .
في «مزامير المدينة( ) « للروائي والأديب العراقي علي لفته سعيد تسعى الشخصية الرئيسية «محسن» إلى متابعة أثر زوجة الجريح «سلوى» لمعرفة اين تركتها الحروب.. الشخصية الرئيسية تعمل في هذه الرواية حفارا للقبور بعد أن كان في الجزء الاول – رواية «الصورة الثالثة» – يعمل مشغلا لمولدة كهربائية فوق سطح أحد فنادق مدينة كربلاء.. وهو المؤلف الذي يراقب بعين الوعي فإن المهمة ستكون متوجة بالانتقالات العديدة بين المقبرة وما يأتيها وما يحصل فيها من أحداث، وما يحصل في المدينة من صراعات خفية سواء على مستوى الساكنين أو العلاقات الأسرية التي امتلكت الأطيان وامتهنت لعبة رجال الدين. مثلما تناقش التحول الدراماتيكي لبعض المثقفين من اتجاه فكري إلى آخر .
والرواية تعد صراع الأمكنة وإماطة الأذى عن الواقع وإزالة الغبار عن المرايا لعل الصورة تتضح أكثر ولو صورة واحدة من بين الصور.
واللغة في الرواية متساوقة مع المعنى والمعنى يبحث عن تأويله وما بين اللغة وطريقة الحكي تركت الرواية فسحتها للتأمل وهي تتحدث عن الضياع في الحب والمكوث معا.
الحب الذي أغرقته الحروب العبثية والذي حاول الراوي اقتناصه في حضرة أبيه الذي يعلمه الحرف ليكون ثابتا وحين يموت لا يجد في الحرب غير أن يخوض الحروب وما بعدها لا يجد عملا ثابتا حتى يستقر على عمل حفار قبور فيكتشف هول العالم الذي يعيش فيه .
الحرب في الجهة الأخرى التي لا تلسعه نارها في المرة الأخيرة بعد الاحتلال والقبور مأوى هذه الحروب فيحترق بشوائها ويخاف على أفكاره ومن بين خضم القبور يكتشف طرق الهلاك في هذا العالم. لكنه وسط كل الركام يبحث عن الحب والحرب فيكونا معا معادلا موضوعيا لما ضاع من الحياة فيكون القبر سلوى الحديث عن الغياب والضياع والتيه، ومواكب العزاءات والبكاءات والحزن المعتق والفقر الذي يعلن أمامه قصر طوله فتتحول قبر إلى لذة مشتهاة مثلما هو قبر للتحول إلى العالم الآخر..
ومن البداية نجد المؤلف متأثرا بعالم الأسطورة والتنبؤات والعارفين، فيجيئ هذا المشهد من الصفحة الأولى للرواية :
« قالها لك قبل عقود، الأب المغرم بتفاصيل التاريخ وهو يحكي عن الحرب إن قامت في العراق لن تقف وأسماها مثل (طابوقة). جملة اختصرت كتباً لم تكن تقتنع بها أو تحاول التفكير بها وتربطها بكتب الغيبيّات التي تحاول ألّا تؤمن بها ولا تكيّف نفسك معها. وحين سألناه عن كيفية المعرفة، قال إنها نبوءة الكتب والعارفين».
وفي هذه الرواية يعود بنا المؤلف إلى أنموذج الأرض / الأم كنمط أولي، ومنه تفرعت أنماط تلبست بغلائل تناسب الشعوب في بيئاتها المختلفة ، فالقبور بهذا المعنى هي رحم الأم التي نعود إليها حين نموت، فمقولة «أيتها الأرض أنت أمي» ليست بلاغية فقط ولكنها حقيقة، فالأرض الأم مصدر غامض ومهيب ومعين لا ينضب للخصب والنماء والحياة الجديدة تلك التي ستكون في القبور مرة ثانية من نعيم أو عذاب حسب المفهوم الديني الذي لم ينفصل المؤلف عنه، ويضيف:
«ولكن يبدو إن الحياة في المقبرة تعلّم الهدوء واستخلاص النتائج».
وتقول الأسطورة القديمة:
«في بداية الأمر كانت الأرض متزوجة من السماء وكانتا متلصقتين ولهذا ساد الظلام الكون، ثم أنجبت الأرض الأبناء وهم الشمس والقمر والنجوم وكاد الابناء يختنقون إذ كانوا محشورين بينهما، فأطلقوا سهامهم فانفصلتا وعاش الأبناء في السماء فكان النور والضياء».
وأنموذج الأرض الأم القديم تفرعت منه أنماطا عديدة فكانت آلهات حيث ظهرت «أنانا» السومرية، و»عشتار» البابلية، و»عنات» الكنعانية، و»عشتروت» الاغريقية، و»إيزيس» المصرية. وهذه هي المقبرة الكبيرة للجنوبيين من أهل العراق فيقول محسن :
« في مقبرة وادي السلام حيث الجنوبيين لهم أرومة في المقبرة الأكبر في العالم. تضحك، لأنك في مقبرةٍ أخرى وفي مدينةٍ أخرى يمكنك الجلوس على علوٍّ وترى الموتى كيف يتقاطرون. لكن الحال اختلط وتتخيّل الموتى كيف يتزاورون في المقابر الكبيرة ويضحكون على حالنا وحال من قتلته الشظايا في الحروب».
وهذا النمط الأولي والأسطوري حرَّك مخيلة المؤلف إذ كتب لنا روايته «مزامير المدينة»، عن «محسن» الذي عمل حفارا للقبور وما يعانيه من أهوال الموت طوال الرواية.
وهو ينتقد القتل على الهوية الدينية فيقول :
«وهم ينادون أن الموت للصفويين حلال فيأتي الرد أن الموت للوهابية، كأننا أمام دكان عبادةٍ يبيع أقراص الجنّة حيث يريد القتلة».
ومن نافلة القول أن هذا النموذج لم يكن نقيا خالصا في ذهن المؤلف بل كان متوائما مع ثقافة عربية وإسلامية فالمزامير تشير إلى مناجاة /غنائيات / والصوت الشجي للنبي داوود كما نعرف جميعا من السنة النبوية وهناك الكثير من المفردات والجمل القرآنية وردت متواترة أيضا .
وهكذا حاولت الرواية رسم الوجع من وجهة نظر المؤلف وزاوية من وجهة نظر سارد الأحداث التي تتشعب وتتوزع فتتعبد طرق التفاصيل والحكي لعلها تصل إلى المبتغى من أن الحرب تمنح القبور والقبور تمنح المزامير في لحظة رؤية لما يجول في خاطرها.